الكرامات "الإسرائيلية"!
8 رجب 1430
د. محمد يحيى




عادت في الفترة الأخيرة إلى بعض وسائل الإعلام التي تحاول تحسين صورة "إسرائيل" بعض الأخبار والتعليقات الغريبة التي كانت بدأت تظهر منذ أيام الحرب على غزة في أواخر العام الماضي والتي تتردد بين حين وآخر، ومفاد هذه الأخبار هي أن الجنود "الإسرائيليين" الذين كانوا يهاجمون غزة ويعتدون عليها، ويدمرونها بأكثر وسائل التدمير وحشية، ويقتلون الأطفال والنساء كانوا يشاهدون حسب زعم هذه الروايات بعض الأشخاص ممن فسروهم بأنهم ملائكة أو بعض الذين وردوا في التاريخ "الإسرائيلي" كقديسين أو أنبياء أو ملوك يظهرون لهم ويساعدونهم بتوجيههم إلى أماكن اختباء أو وجود الفدائيين الفلسطينيين أو يساعدونهم عن طريق جعل طلقات وقذائف المجاهدين الفلسطينيين تطيش من على دباباتهم ومركباتهم أو يساعدونهم بجعلهم يهربون من الكمائن الفلسطينية وما أشبهه.

إن هذه الأخبار التي تتردد بين الحين والحين وهدفها الواضح هو رفع الروح المعنوية لأفراد الجيش "الإسرائيلي" بعد هزيمتهم النكراء في غزة، لو كانت قد ظهرت في بعض الصحف العربية أو الإسلامية تتعلق بحروب تخوضها تلك البلاد لقامت الدنيا العلمانية ولم تقعد ولملأ العلمانيون الدنيا ضجيجًا حول التخلف الإسلامي والخرافات والظلامية، وأن الإسلاميين أو المسلمين عمومًا لا يستطيعون العيش بدون خرافات وأنهم يقاتلون حروبهم بهذه الأوهام والترهات ولا يقاتلونها باستخدام الوسائل والأدوات واتخاذ الأسباب المشروعة إلى ذلك، ولا حاجة بنا لأن نذهب بعيدًا في التاريخ، ففي إبان حرب عام 1973 التي خاضها الجيش المصري لإجلاء "الإسرائيليين" عن سيناء كانت هناك روايات تتردد بين أفراد هذا الجيش عن كرامات ظهرت لهم متمثلة في التوفيق الكبير والإعجازي لبعض هؤلاء الجنود أو لبعض الوحدات في الهجوم على العدو أو تدميره أو على الأقل الهروب من هجماته المضادة بسلام.

وفي ذلك الوقت قص شيخ الأزهر الراحل رؤية رآها تقول بأنه شاهد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يأخذ بيد جندي مصري ليعبر به القناة وقد قص رؤياه هذه في أول أيام الحرب ثم تبين تحققها عندما نجح الجيش المصري بأكمله في عبور القناة بنجاح قال فيه الخصوم قبل الأصدقاء أنه نجاح يشبه المعجزة، وفي ذلك الوقت أشهرت الأقلام كالسيوف تهاجم الشيخ الراحل وتهاجم معه كل من تحدثوا عن كرامات حصلت للجيش المصري على سبيل التوفيق والسداد وذهبوا إلى أن كل هذا هو خرافات وأن نشر هذه الخرافات والأوهام يؤدي إلى عدم الأخذ بالأسباب بل ويؤدي بالجيش إلى التكاسل عن الحرب وعدم إتمام مهامه بنجاح، وفي وقتها لم يقل أحد أبدًا سواء من داخل الجيش المصري أو من خارجه أنهم يقاتلون اعتمادا على هذه الكرامات أو أنهم لا يتخذون الأسباب بل على العكس كان على الواضح أن الجيش في هذه المعركة بالذات قد اتخذ من كل الأسباب الممكنة، ولكن كل ما قيل هو أن الجيش عندما خاض معركته تحت شعار الله أكبر تحقق له التوفيق الإلهي في أماكن ونواح غير مذكورة، وليس في هذا شيء يشذ عن العقيدة الإسلامية بل على العكس فإن العقيدة تؤازره وتدل عليه، لكن أيًا من هذا لم يشفع لدى العلمانيين ومن دار دورهم ولف لفهم من بعض الإسلاميين الذين أحبوا أن يتسموا بصفات الحداثة والمعاصرة فذهبوا يؤكدون أن لا مجال في الحرب للكرامات أو للنجاح أو للتوفيق والسداد الإلهي بل إن الأمور كلها هي أمور سببية محضة، ولكننا الآن وبعد ما يقارب الست وثلاثين عامًا من هذه الحرب نجد أن جيش "إسرائيل" وقد كان الطرف الآخر في حرب 1973 يروج لخرافات واضحة لا أساس لها حتى في عقيدتهم حول التوفيق والسداد والمعجزات والكرامات التي رافقتهم، مع الفارق أن الروايات "الإسرائيلية" الأخيرة هي روايات واضحة الزور والبهتان والدجل والكذب والترويج والدعاية الإعلامية وليست بها أي ذرة من الحقيقة والدليل على ذلك أنها لا تستند إلى أقوال مدعمة أو إلى روايات تصدر من مصادر صادقة أخبار تروج على سبيل الإثارة في بعض الصحف التابعة للعناصر اليهودية شديدة التطرف في طابعها الديني أو الصهيوني، ولكن في هذه المرة، ولأن الخرافة تصدر عن الجانب "الإسرائيلي" الذي أصبح عند البعض هو الجانب المصدق والصدوق فإن أحدًا وبالذات من العلمانيين العرب أو الأجانب لم ينطقا بكلمة واحدة ولو على سبيل الاستهزاء أو السخرية من هذه الأخبار واضحة البطلان ولم يجرؤ أحد على انتقادها أو على أن يقول أن الجيش "الإسرائيلي" هو جيش يعتمد على الدعاية الباطلة أو أن الدولة "الإسرائيلية" تغرق في الخرافات والأوهام، بل على العكس مرت هذه الأخبار مرور الكرام، ولم يكن عليها من تعليق أكثر من ذكرها، وربما به بعض التعليقات التي تدل على الاستحسان أو تعبر عن روح خفيفة من الدعابة حول من يطلقون على أنفسهم أصحاب الكرامات الجدد.

إن ظاهرة تكذيب العلمانيين لحدوث أي كرامات أو توفيق للجيوش أو للقوات الإسلامية المجاهدة هنا أو هناك هي ظاهرة متكررة، وقد لاحظناها مثلاً في الجهاد الذي حصل في أفغانستان، ويقابلها على الجانب الآخر، سكوت تام أو حتى تقبل لما يردده الجانب "الإسرائيلي" في الفترة الأخيرة حول معجزات وكرامات مزعومة.