(مثقّفون) سوريون في القرن الحادي والعشرين!..
12 رجب 1430
د. محمد بسام يوسف

أيهما أشد خطراً على الشعب والأمة والبلاد والعباد؟!.. النظام الحاكم البوليسيّ وأجهزته (الأمنية) الكاتمة على أنفاس الجماهير، أم تلك الشريحة من الوصوليين الذين تُدرَج أسماؤهم في قوائم (المثقّفين) و(الأدباء) و(الخطباء) و(الصحفيين)؟!..

 

عندما يُحكِم النظام الحاكم قبضته على كل شيءٍ في الوطن، فيصادر كلَّ نسمة حرّية، ويزجّ في معتقلاته كل مَن يتنفّس خارج سياق مضخّات التنفّس، التي نصبتها أجهزته (الأمنية) حول عقول الناس وطرائق تفكيرهم.. فإنّ هذا السلوك القمعيّ الظالم، يمكن أن تجدَ له تفسيراً في قواميس الدكتاتورية والدكتاتوريين والمتسلّطين على رقاب الناس، أو في عُرفِ الانقلابات العسكرية أو البوليسية المخابراتية، أو في معاجم القهر والظلم والاستغفال.. قد تجد تفسيراً في كل ذلك.. لكن أن تعثرَ على بعض المتسلّقين برتبة (مثقّفٍ) أو (أديبٍ) أو صاحب قلم، يُزَيِّنون للناس كلَّ خروقات النظام الحاكم البوليسيّ، ويبرّرونها، ويمارسون بدورهم قمعاً فكرياً وإرهاباً ثقافياً، ليجعلوا سوط الحاكم وظلمه وباطله، نوعاً من أنواع الفضيلة والوطنية.. فهذا لَعَمري من أشد البلاء الذي يمكن أن يقع على رأس شعبٍ ووطن!..

 

بعض الذين احتسبوا أنفسهم على مراتب الثقافة والفكر والأدب.. يخجل الإنسان السويّ من احتسابهم على فصائل (الببغاوات) أو حجارة العصور الحجرية أو (مستحاثات) العصور الطباشيرية!.. ويُخَيَّل إليك وأنت تقرأ مداخلاتهم ودفاعهم المستميت السطحيّ عن وحوشٍ بشريةٍ ما تزال تحكم باسم الوحدة والحرية والاشتراكية.. يُخَيَّل إليك وكأنك عَبَرتَ (ثقباً زمنياً) أعادك إلى حقَب ما قبل التاريخ، أو كأنّك تتنقّل بين جثثٍ محنَّطَةٍ في سراديب الأهرامات الشهيرة، لا تسمع ولا ترى ولا تعقل!..

 

(لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)!.. هذا المنطق الذي ما يزال (عباقرة) الفكر الوصوليون يعيشون بين ثنايا دغدغاته.. هو الذي ما يزال يضبط إيقاع تفكيرهم في القرن الحادي والعشرين.. قرن الانفتاح والحرية والفضاء والإنترنت وثورة الاتصالات وأوعية المعلومات الضخمة!.. وأية معركة؟!.. لا أحد من هؤلاء (المحنَّطين) يجرؤ على توصيفها أو إقناع (أطفال) سورية بكنهها وحقيقتها وجوهرها، لأنّ كل الناس الأسوياء -داخل الوطن وخارجه- يعرفون حق المعرفة كم طلقة مدفعيةٍ انطلقت منذ ثلث قرنٍ -ولو بالخطأ- تجاه الأرض المحتلة، أو تجاه طائرات العدوّ التي عربدت (وستبقى تعربِد) في سماء الوطن –ذهاباً وإياباً- من جنوبه إلى شماله، ومن غربه إلى شرقه!..

 

يقول المحنَّطون السوريون من الكَتَبة (أي بعض المثقّفين): لا تتحدّثوا عن الحرية، ولا عن الحرّيات العامة، ولا عن الرأي الآخر، ولا عن الفساد المستشري، ولا عن اللصوص الذين ينهبون بلا حساب، ولا عن المختفين منذ ثلث قرنٍ في سجون ( الصمود والتصدّي)، ولا عن مئات الآلاف من المهجَّرين قسراً.. فنحن في حالة معركة!.. وكأنّ المعركة –غير الموجودة أصلاً- لا تُحقِّق أهدافها إلا بسحقنا وقمعنا والبطش بنا!..

 

خائنٌ لوطنه كل مَن يتنفَّس نَفَسَاً ينتقد به قوانين الطوارئ أو الأحكام العُرفية، المفروضة قسراً على رقابنا ورقاب أجيالنا منذ أكثر من أربعة عقود!.. فسورية اليوم، هي سورية (الممانَعة)، والوقوف بوجه المؤامرات، والتصدّي للعدوان!.. وكأنّ الممانعة لا تكتمل إلا بمذابح سجون تدمر والمزّة وصيدنايا، ولا تؤتي ثمارها إلا بالدَّوْس على (المصحف الشريف) في ردهات المعتَقَلات!..

 

الببغاوات الطائفية المحنَّطة، تُشكِّل سياجاً غليظاً شائكاً حامياً، حول سلوك النظام وبطشه ودكتاتوريّته ومصادرته لكلّ الأنفاس، باسم الممانَعة والتصدي للإمبريالية والصهيونية والرجعية!.. فتُحِسُّ عندما تتعثّر بدخول أحد منتدياتهم أو أوكار حواراتهم أو نقاشاتهم أو مَعارض أفكارهم.. وكأنك أخطأت فدخلتَ كهوف جبال الواق واق، إذ لا تسمع إلا فحيح الأفاعي، أو نعيق الغربان، على لسان ببغاواتٍ لا تسمع ولا ترى ولا تعقل، بل تُصفِّق وتكرِّر –دون مللٍ أو خجل- ما لقِّنها إياه متخلِّف من نتاج الجمهورية الوراثية للحزب القائد، لم يعرف حتى الآن أنّ القرن الحادي والعشرين، تختلف فيه طبائع الأشياء وطرائق التعامل والتفكير المتطوِّر السليم الهادف!..

 

من مصائب هذا الزمان، وهذا الوطن، وهذا الشعب.. أنّ هؤلاء المحنَّطين، ذوي الأصوات العالية إلى درجة الوقاحة، لا يستوعبون أنه يمكن الجمع في سورية، بين الممانَعة والحرية، وبين الصمود واحترام حقوق الإنسان، وبين الإعداد للمعركة وإلغاء القوانين الاستثنائية والأحكام العُرفية وقوانين الطوارئ والقانون رقم 49 لعام 1980م، وبين السعي لتحرير الأرض ومحاربة الفساد، وبين التصدّي للعدوان وإلغاء الحكم الطائفيّ البوليسيّ، وبين الوقوف بوجه الإمبريالية وعودة ملايين المهجَّرين -قسراً أو طوعاً- إلى وطنهم، وبين دفع المؤامرات الصهيونية وإطلاق سراح المعتقلين وسجناء الرأي!..

 

أيهما أشد خطورةً على حاضر سورية ومستقبلها: النظام الدكتاتوريّ الشعاراتيّ المتخلِّف، أم الجثث المحنَّطة التي تتنفّس وتأكل وتشرب وتمشي على الأرض، لكن بلا بصرٍ ولا بصيرة، بل بلا نخوةٍ ولا مروءةٍ ولا ضميرٍ ولا كرامة؟!..