أربعينية ثورة القذافي.. من المناكفة إلى الوكالة
12 رمضان 1430
عبد الباقي خليفة

ليبيا قطر عزيز من أقطار أمتنا المترامية ، نحبها ، ونحب الخير لأهلها . وهي ركن ركين في ماض وحاضر ومستقبل الأمة . فهي تحتل موقعا هاما على حوض البحر المتوسط ، يحدها من الشمال تونس والجزائر ، ومن الجنوب مصر ، وهي حلقة الوصل بين المغرب الاسلامي والسودان . وهي دولة مترامية الأطراف إذ تبلغ مساحتها 1،750،000 كيلومتر مربع . تعرضت في السابق وفي التاريخ المعاصر لمؤامرات غربية كثيرة منها البريطانية ، والاسبانية ، والايطالية ، وهي لا تزال هدفا للقوى المعادية للأمة . وللأسف فإن السياسات التي قادت ليبيا منذ الاستقلال عام 1951 م أو التي أعقبت الانقلاب في 1 سبمتبر 1969 م تدفع بليبيا للتهلكة ، وللمستقبل المظلم ، وسط مؤشرات على تحويل ليبيا إلى ملكية مستبدة ، بعد أن كانت حكما فرديا مغرقا في وحشيته ودمويته .

وفي هذه الأيام تمر أربعينية الانقلاب الذي قاده ضابط صغير في غرة سبتمبر سنة 1969 م ، سرعان ما خلع على نفسه لقب "عقيد "حتى أن حاشيته نسيت اسمه ، واكتفت بترديد " الأخ العقيد " . وقد احتفل القذافي بأربعينية انقلابه على طريقة " ألف ليلة وليلة " فكانت ليلة الحادية عشر من رمضان ، الموافق لغرة سبتمبر ، ليلة صاخبة ، راقصة ، حتى الصباح . واحتشد فيها عشرات الراقصين والراقصات ، يقدمون الوصلات تلو الأخرى ، على مشهد من العقيد القذافي وضيوفه من الشرق والغرب ، وعشرات الخيالة ، في دمج صفيق بين ماض تليد ( الفروسية ) وحاضر تعيس ( الشطح بمختلف أشكاله ).

 

الحكم البوليسي :

منذ 40 سنة والقذافي يحكم ليبيا بالحديد والنار .. رفع العشرات من المعارضين على أعواد المشانق ، تحت لافتة محاربة " الزندقة " ، و" الكلاب الضالة " . وهذه الجرائم وثقها النظام نفسه ، وعرضها على التلفزيون ليرهب الشعب الليبي وطلائعه المناضلة . وقد تمكن من القضاء على الكثير من المعارضين سواء بالإعدامات أو الاغتيالات ، أو السجن ، أو دفعهم للهجرة . ومنذ عدة سنوات يطالب أهالي الضحايا بمعرفة مصير ذويهم . ورفض الكثير من الأهالي بيع أعزائهم بمبالغ مالية ، كما لو أن ذويهم قطعان من الماعز أو الخرفان أو الأبقار . وبعضهم تعرض للتهديد نتيجة مطالبتهم بمعرفة مصير ذويهم . ورغم أن القذافي حاول الاستجابة للكثير من النداءات الحقوقية بانهاء معاناة المساجين ، إلا إنه لم يفرج عن بعضهم إلا بعد التعهد بالكف عن النشاط في جماعة مهما كانت سلمية ولا تؤمن بالعنف في التغيير . كالسلفية العلمية أو الإخوان المسلمين ، أو غيرهم من التنظيمات السياسية من مختلف المدارس الفكرية والسياسية المعاصرة . ولا يزال الكثير من الليبيين المهجرين يرفضون العودة لليبيا ، بعد وعود غير موثوقة من النظام ، لأن ذلك يعني موتهم السياسي ، وربما حتفهم .وقد حاول تبرير ذلك القمع والإجرام كما فعل عبدالناصر من قبله بالزعم العريض أنه يحمل رسالة . وركب موجة الثورية فبعثر أموال الشعب في تمويل حركات التمرد ، سواء في ايرلندا ( الجيش الجمهوري ) أو الباسك في اسبانيا ، أو ممالك إفريقيا الصغيرة وغيرها . حيث يسعى دائما للظهور بمظهر القائد المظفر ، كما هو في روايات شكسبير ، وأحيانا السندباد ، أو الساموراي . ولأنه يريد أن يكون كل شئ تقريبا ، فقد انتسب إلى الفكر والمفكرين من خلال كتابه " الأخضر " والذي يعبر عن ضحالة فكرية ، وضيق أفق سياسي ، لا يمكن أن يقبل في العصر الحديث .

ولا يزال  الليبيون يأملون في الانفراج على قاعدة " تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة " فطالما أن الارادة لم تنكسر فالأمل لا يموت . رغم أن الواقع سوداوي بكل المقاييس .

 

من المناكفة إلى الوكالة :

في أربعينية الثورة ( الانقلاب ) هناك الكثير من المتغيرات على صعيد توجهات القذافي من المناكفة للامبريالية استنادا للمعسكر الشرقي ، إلى الوكالة للامبريالية نفسها ، بدءا بالتخلي عن مشروع الوحدة العربية ، ليسبح في فضاء هلامي ، يدعى ( الوحدة الإفريقية ) مرورا بالتخلي عن مشروع ليبيا النووي ، وتعويض ضحايا لوكربي بمبلغ معلن يزيد عن ملياري يورو ، والانخراط في المشروع الغربي ، عبر التعاون الاستخباراتي ، والمشاركة في إعادة ترسيم الخارطة الإفريقية ، وحتى الآسيوية وفق المخطط الغربي . سواء بدعم حركات التمرد في دارفور ، أو مساندة التشاد بعد أن كانت ساحة للمنافسة بين ليبيا القذافي وفرنسا .

الأمر العجيب هو أن القذافي الذي كان مواليا للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقا ، تحول في نظر الغرب ، من " مارق " إلى حليف .!!! ولم تعد ديكتاتورية القذافي ودمويته كما كان يوصف في الأدبيات السياسية والإعلامية الغربية ، سببا ظاهرا لسعي الغرب للإطاحة به ، ومحاصرته . وبدا الغرب على حقيقته ، وهو أن حقوق الإنسان والديمقراطية لا تهمه إلا بقدر تحقيق مصالحه الأنانية . فالقذافي بعد أن سلم سكاكين مطبخه بتعبير بعضهم ، أصبح حليفا فيما يسمى بالحرب على الإرهاب ، والذي يخفي في حقيقته حربا على الإسلام .

ويبدو أن القذافي مرشح للعب دور كبير في تأجيج قضية دارفور ، بعد تمكن السلطات السودانية من العثور على أسلحة ليبية لدى المتمردين ، وكذلك تصريحاته الأخيرة التي دعا فيها إلى استقلال جنوب السودان . وقبل ذلك تصريحاته في ايطاليا التي تحدث فيها عن أن المرأة في العالم الإسلامي " مجرد أثاث " مما عد انخراطا في الحرب الغربية الجديدة ضد الإسلام بكل تفاصيلها الوحشية والبربرية . فالغرب لا تهمه سوى مصالحه ، وطالما أن الحرب على مظاهر الإسلام قائمة في بلاد الإسلام ، وطالما امتدادات النفط الرخيص مستمرة ، فالاستبداد والقمع العربيان في أمان . بل توريث الحكم للأبناء سيتواصل طالما الشعوب والبلدان ودينها في ميزان النخاسة الدولية . أي كل ذلك جميعا هبة للغرب مقابل السكوت عن القمع والاستبداد .

 

مستقبل مخيف :

واليوم يدور التاريخ دورته ، ونشهد إرهاصات عودة الاحتلال إلى بلداننا ، بنفس الطريقة التي احتلها بها في السابق ، ومنها ،إطلاق المشاريع التجارية والاستثمارية . وإيجاد الجو المناسب لإقامة الغربيين ، وإرسال البعثات التنصيرية ، وفتح فروع للبنوك الغربية . في الوقت الذي لا يزال فيه مصير 6 آلاف ليبي نقلتهم الفاشية الايطالية إبان الاحتلال 1911 / 1951 م مجهولا ، إلى جانب عشرات الآلاف من الليبيين الذين قتلوا على يد الفاشية الايطالية ، ولم يتمكن الليبيون من الحصول على حقوقهم بعد أن وقع القذافي في سنة 1998 م اتفاقية مع ايطاليا تقضي بإغلاق ملف الاحتلال الايطالي لليبيا . وما يجري الآن هو مجرد ذر للرماد في العيون لتمرير عودة الاحتلال سواء لليبيا أو غيرها من الدول التي توقع على اتفاقات لا يعرف مواطنوها كنهها الحقيقي وأهدافها الإستراتيجية ، وفي مقدمة تلك المشاريع القواعد العسكرية .