المنعرج الكبير في القضية الفلسطينية
17 شوال 1430
عبد الباقي خليفة




مثل الموقف المريب لسلطة محمود عباس ،من تقرير غولدسون، ما يمكن وصفه بأنه آخر مسمار في نعش النضال الوطني لحركة فتح ( عباس ) ومن سار على نهجها من المتحزبين و"المستقلين" على حد سواء . فلم يكن الكثير من الوطنيين ، والحادبين على القضية الفلسطينية يتصورون أن تصل الأمور إلى حد مطالبة السلطة الفلسطينية بتأجيل النظر في جرائم الصهاينة في غزة ، وبطلب خطي من السلطة غير الشرعية في رام الله ، قدم لمندوب باكستان ممثلة مجموعة دول منظمة المؤتمر الإسلامي. وذلك استجابة لضغوط بنيامين نتنياهو الذي ربط استمرار مهزلة ( السلام ) وتمويل عباس بعدم المضي في دعم التقرير الأممي حول جرائم الاحتلال في العدوان على غزة . وتهديد ليبرمان بكشف دور سلطة عباس في العدوان على غزة بالتحريض على العدوان ، وعلى استمرار الحصار. بينما تقوم تلك السلطة عبرالتصريحات الاعلامية المغشوشة بالتغطية على ذلك الدور. وهو دور لا يمكن تبريره فضلا عن الدفاع عنه ، فالنازلة لا يمكن تفسيرها بأنها صراع سياسي تستخدم فيه جميع الأسلحة ، من أجل السلطة أو إفشال حزب سياسي أو حركة لتمثيل البديل السياسي لها ،  خدمة لهدف وطني . فهذا التفسير بعيد كل البعد عن الحقيقة ، فما يجري على أرض الأقصى من ممارسات سلطة عباس ،لا يمكن النظر إليه سوى أنه وكالة سياسية ، وشركة أمنية ، على غرار،  بلاك وتر ( محلية )  تقوم بما تقوم به من أجل المال ، والمال وحسب . وبالتالي فإن محاولة سلطة عباس إسقاط حماس عن طريق التحريض على العدوان الصهيوني الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 1400 شهيد وسقوط 6 آلاف جريح وتشريد الآف وتدمير البنية التحتية ، وكذلك عن طريق استمرار الحصار ، ليس لكونها خصما سياسيا تسعى فتح عباس للتغلب عليه بوسائل غير سياسية وغير ديمقراطية وغير طبيعية فحسب ، بل لأن فتح عباس ترتزق من خلال هذا الدور صهيونيا وأميركيا ، ولا نقول عربيا ، لأن الأطراف ( العربية ) الأخرى ليست سوى صورة أخرى من فتح عباس .

أما ( الدولة ) الفلسطينية الموعودة فهي لن تكون دولة بمعنى الكلمة ، بل دولة أشبه ما تكون بحضيرة الفاتيكان ، أي دولة غير ديمقراطية ، يقودها بابوي مدى الحياة ، منزوعة السلاح ، وتخضع للدولة الصهيونية برا وبحرا وجوا ، بينما يمثل سدنتها كرادلة الفاتيكان بصراعاتهم وتناقضاتهم وشذوذهم . أما العلاقة بين هذه الدولة ( الفاتيكانية ) الفلسطينية ( العلمانية .. أي ستكون كنيسة لائكية كما هو الحال في تونس ) والكيان الصهيوني فهي نفس العلاقة بين السلطة في ايطاليا والفاتيكان تتحسن أحيانا وتسوء أحيانا أخرى وفق مصالح الطرفين . وحتى هذه الدولة المسخ تحيط بإمكانية قيامها الشكوك المؤسسة على حقائق الأرض، المتمثلة في سياسة الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس، وهي سياسة غذتها مواقف سلطة عباس ، من العدوان على غزة ، والتحريض على مواصلة الحصار ، وأخيرا وليس آخرا إحباط مشروع إدانة الكيان الصهيوني على جرائمه في غزة . ولو نجح العدوان على غزة لشهدنا تطورات أكثر دراماتيكية ، ولتمت تصفية القضية الفلسطينية بشكل أسرع مما هو سائد آنيا . مما يؤكد ما ذهبنا إليه آنفا من أن السلطة ليس لديها مشروع تحرير بقدر ما مشروع "تمعش" وارتزاق ، مع مطامع الدولة (الفاتيكانية اللائكية) . ورغم إدراك حماس للمنعرج الخطير الذي تسلكه فتح عباس "صدور العيب من العيب ليس مستغربا " بتعبير رئيس الوزراء الفلسطيني ، إسماعيل هنية ، إلا أن هناك مخاوف من أن تتنازل عن شروطها للمصالحة ، وفي مقدمتها إصلاح منظمة التحرير ، وأن تكون أي تغييرات في غزة متزامنة وأخرى في رام الله . وعدم القبول بما يراد تمريره وهو فصل اصلاح منظمة التحرير عن مشروع المصالحة . فمنذ خروج القضية الفلسطينية من مرجعيات الامم المتحدة ، ومن استراتيجية المقاومة ، ودخولها في متاهات أوسلو ، ومدريد ،وأنابوليس ، والرباعية ، وأصبح الإعلام يتحدث عن إسرائيل ، وليس الكيان الصهيوني ، وأبناء العم ، وليس العدو ، والقضية تتآكل والعدو يسارع في تغيير الحقائق على الأرض في القدس والضفة الغربية . في نفس الوقت يزداد التعاون والتنسيق الأمني من قبل سلطة عباس مع العدو الصهيوني ، بل تكشف لنا الايام عن تعاون عربي رسمي من خلال معرض الهدايا العربية لوكالة الاستخبارات الصهيونية ، الموساد الصهيوني العام الماضي ، والذي أخفي فيه هويات الدول وإنقاذها من العار والفضيحة ، والتي لحقت بها سرا وعلنا ، فقد عرفت هويات الكثير من الأنظمة من خلال خرائطها القطرية وغيرها وإن محيت أسماؤها ، كما محي شرفها عن طريق أنظمتها التي تعتبر بيع الشرف الشخصي والوطني ، والقومي ، والأممي دينيا وإنسانيا ، شطارة سياسية !!!

ولذلك فإن اعتبار ما يجري على الساحة الفلسطينية انقساما ، ليس تعبيرا حقيقيا عما يجري على الأرض ، فما هو واقع له نظير في القرآن الكريم في قصة طالوت وجالوت . فالسلام الصهيوني يشبه ذلك النهر الذي منع طالوت الشرب منه (البقرة 249) ولكن البعض شرب منه ، ومن ذلك البعض ، أنظمة عربية ، وفتح عباس ، وسلطة عباس في رام الله . وبعض الفصائل الفلسطينية التي لم تشرب ،وكذلك بعض الأنظمة ،هي من تردد سرا وربما علنا " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " أما من هم من على شاكلة الجهاد وحماس فهم من قال الله فيهم والله حسيبهم " قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " وكذلك في غزوة أحد عندما عاد المنافقون بثلثي الجيش ، فهذا وذلك  ليس انقساما وإنما تمايزا للصفوف ، ولا يعقل هذا إلا العالمون . وقد تمايزت الصفوف بين موال للاحتلال ورافعا للواء المقاومة بكل أشكالها القتالية والإعلامية والاقتصادية ، وإن كان أفراد الأمة  معذورين فيما لا يقدرون عليه إذا بذلوا الوسع فما هو وضعهم فيما يقدرون عليه ، القول والكتابة والدعاء .

ونقول هذا لأن أطرافا خارجية وداخلية تعمل على تصفية القضية ، بل وجود الأمة برمته ، من خلال محاولة طمس البعد الإسلامي لوجودنا وبقائنا والقضاء عليه إن أمكن ، في نفس الوقت الذي يدعون فيه إلى يهودية الكيان الصهيوني ، أو الجذور اليهودية النصرانية لأوربا ، والغرب عموما . في معادلة لم يتمكنوا أو قل لم يحاولوا فهمها ، من خلال السؤال التالي ، لماذا هناك محاولات لتهويد فلسطين ، ونصرنة الغرب ، مقابل علمنة بلاد المسلمين . ولماذا يكثر الحديث عن التوراة والإنجيل ومحاولة خنق صوت القرآن الحي ، من خلال ازدراء ما يوصف ب " الخطاب الديني " ؟!!!

فقد سادت الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية خطابات وطنية وقومية علمانية ، كانت نتيجتها سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924 م وتنفيذ مشروع سايكس بيكو ، لتقسيم بلاد المسلمين ،وقيام الكيان الصهيوني سنة 1948 م وهزيمة العرب 1967 م وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979 م وتقوقع كل قطر داخل حدوده في القرن 21 م .مع " انفتاح " على الكيان الصهيوني وإقامة علاقات سرية وعلنية معه . ولاسيما داخل فلسطين المحتلة بناء على اتفاقية أوسلو التي حولت الكيان الصهيوني إلى حليف للسلطة الفلسطينية ، في حرب المقاومة ومحاولات تصفيتها ، من خلال تحديد أماكن وجود رجال المقاومة ، والمساعدة في اعتقالهم ، بل التورط في جرائم التعذيب وحتى القتل في أقبية سلطة عباس في رام الله . وقد تعرض الكثير من الشباب الفلسطيني لعمليات غسيل دماغ أثناء مشروع التدريب الذي يشرف عليه الجنرال الأميركي دايتون. ولا ينبغي أن نلقي باللائمة فقط على فتح عباس وسلطة عباس فحسب ، بل هناك أنظمة عربية تسكنها هواجس شخصية أبعد ما تكون عن الوطنية والقومية والإنسانية، فضلا عن " السلام " ساهمت وبشكل قذر في التراجيديا القائمة في فلسطين، جبنا وغباء وتقديم المصالح الفردية والفئوية على الوطن والعرب والمسلمين والمسلمين والإنسانية، وإن بررت مواقفها المخزية بأحد أو بعض ما سبق ذكره من مفاهيم . وهي تعلم علم اليقين أن الصهاينة لا يؤمنون بسلامهم ( المبادرة العربية ) ولا يعترفون بأي حقوق للشعب الفلسطيني والعرب ، وما قاله نتنياهو في أثناء فعاليات الدورة 64 للجمعية العامة للأمم المتحدة يؤكد ذلك ، حيث اعتبر فلسطين ملكا لليهود نافيا أن يكون الكيان الصهيوني سلطة احتلال . ولم نسمع من الأنظمة العربية أي رد حيث ساد العواصم العامرة صمت القبور.

واليوم يعد العدو العدة لتعميق الجرح الفلسطيني من خلال الإصرار على إجراء انتخابات العام القادم في ظل التمايز الفلسطيني بل العربي ، بدون الأخذ بعين الاعتبار تحفظات حماس وشروطها للمصالحة الشاملة، مما يعني أن الانتخابات ستجرى في جيب رام الله كما أشار إلى ذلك بعض المطلعين، أي بدون رفع الحصار، وبدون التوصل إلى تسوية فلسطينية ، وبدون الإفراج عن المعتقلين السياسيين في سجون وكلاء الاحتلال في رام الله . أي أن الانتخابات ستكون موجهة ولا تترك للشعب الفلسطيني أي خيار سوى التصويت لسلطة عباس للخروج من الحصار ، وهذا ما يفسر إصرار سلطة عباس على استمرار الحصار، (هناك تسجيل له يضغط فيه بهذا الاتجاه) أي الحكم على جماجم الشعب الفلسطيني. وانتخابات في ظل هذا الوضع ستحقق أهداف الاحتلال، فبعد أن كان الشعار المرفوع هو الأرض مقابل السلام، سيكون " رفع الحصار مقابل تصفية القضية نهائيا " بينما ما يسمى بشرفاء فتح، لا تسمع لهم ركزا، وهم في موت سريري كما قال البعض. وسيعطي ذلك مبررا للكيان الصهيوني للضغط على الشعب الفلسطيني حتى لا تتجاوز آماله لقمة العيش وشربة الماء الملوثة بدماء شهداء يسقطون هنا وهناك وفجائع اعتقال هنا وهناك ومصائب متلاحقة على الأرض ارتفاع وتيرة الاستيطان وتدخل الصهاينة في أخص خصوصيات الشعب الفلسطيني . وقد رأينا كيف سكت العالم على انتهاء ولاية عباس،" عصير الديكتاتورية " كما وصفه نبيل عمرو،  والتعامل معه كما لو أن الشعب الفلسطيني جدد له البيعة من خلال انتخابات حرة ونزيهة. ولكن سترون كيف سيتداعى العالم المنافق على حماس عندما تنته السنوات الأربعة ، العام القادم ، أي سنوات الحصار الذي لم تشهده أي حكومة في العصر الحديث.