المستبد العادل: تاريخ الاستبداد في الواقع السياسي العربي
26 ذو الحجه 1430
هشام منور

عنوان الكتاب: المستبد العادل: الزعامة العربية في القرن العشرين.
تأليف: د. محمد عفيفي
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة، مصر، طبعة أولى، 2008م.
عدد الصفحات : 95 صفحة.

*******

 

إذا كانت الدراسات الفكرية والاجتماعية والحضارية المعاصرة لا تزال تدور في فلك البحث في أسباب فشل العرب والمسلمين في إنجاز نهضتهم الخاصة، وسرّ تعثر محاولات النهضة والإصلاح إلى آخر ما هنالك من تسميات أدمن باحثونا (وأبدعوا) في اجتراح تسميات لها، فإن الجانب السياسي من أي مشروع نهضوي تمّ بحثه ودراسته يظل الجانب الأكثر إغراء بالنسبة لكثير من الباحثين ودراساتهم.

 

يدرس الدكتور (محمد عفيفي) في كتابه ظاهرة الاستبداد، في محاولة لاستقراء تاريخ الاستبداد العربي الحديث في الفترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر ونهاية القرن العشرين. ويتركز بحثه حول فرضية دوران التاريخ السياسي الإسلامي والعربي في مجمله حول الفرد والشخصية الطاغية (الكارزمية)، في ظل غياب شبه كامل لوجود المؤسسات السياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويُرجع المؤلف تاريخ ظهور فكرة المستبد العادل إلى كتابات الإصلاحيين الذين رأوا أن الشعوب العربية (والإسلامية) غير قادرة على استيعاب مفاهيم "الديمقراطية" ومشتقاتها كالبرلمان وغيره، أو إرساء دولة المؤسسات. ومن ثَم فلا مناص من قيام مستبد عادل بتخليص تلك الشعوب من الاحتلال الأجنبي، ثم يتجه بها نحو الإصلاح ويقيها مفاسد التمزق والانقسام. ويعتبر الكاتب أن فشل مشروع الإصلاح ربما يكون وراء شيوع تلك الفكرة بعد أن استيأس رجالات الإصلاح من التعويل على مجتمعاتهم وشعوبهم لتحقيق مشروعهم. فسيطرت أسطورة البطل المخلّص، أو الحاكم الخارق(السوبرمان) على العقل الجمعي العربي الحديث.

 

يعود ظهور فكرة المستبد العادل إلى الشيخ (محمد عبده) الذي أرسل إلى الجامعة العثمانية عام 1899 مقالاً بعنوان "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل"، وقد أراد بها الرد على الداعين إلى إصلاح الشرق من خلال الأخذ بالحياة النيابية والدستورية مسايرة للغرب، فيما اعتقد هو أن الأخذ بالنظام النيابي دون تهيئة الناس لتقبله قد يؤدي إلى انتكاسة خطيرة، مفضلاً البدء بمشروع تربوي للارتقاء بالأمة إلى ممارسة الحياة النيابية. وحدد (عبده) مهام المستبد العادل الأولى في توحيد الصف وإرساء قواعد الديمقراطية، حيث وضع جدول أعمال تدريجيًا ، يبدأ بتشكيل المجالس البلدية، ثم يليها في المرحلة الثانية مجالس الإدارة، وبانتهاء تلك المرحلة، تكون الأوضاع مناسبة لتشكيل المجالس النيابية التي هي أعلى مراحل المشاركة الشعبية في الشؤون العامة. وقد تأثر (عبده) كما يرى المؤلف بالظروف التاريخية المكتنفة متمثلةً في انهيار الخلافة العثمانية، دون أن ينكر أثر محمد عبده في ترسيخ نموذج المستبد العادل في العقل الجمعي العربي، حتى أصبح النموذج الأمثل للحركات القومية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.

 

بالمقابل، لم تَسْلم فكرة المستبد العادل من النقد، وكان في مقدمة منتقديها أحد أشهر تلاميذ عبده المفكر الليبرالي (لطفي السيد) الذي رفض الجمع بين الاستبداد والعدل في نموذج واحد، واعتبرها مجرد فكرة خيالية ليس لها سند يدعمها من الواقع. إلا أن رفض (السيد) للفكرة لم يمنع فشل المشروع الليبرالي هو الآخر وهو فشل عزاه البعض إلى تفشي روح البداوة، والعقلية القبلية التي أدت إلى تشرذم العرب وتخلفهم عن التجديد، في حين أرجعها البعض الآخر إلى أسلوب فرض الديمقراطية والحياة النيابية من قِبل أقلية حاكمة متغربة وبشكل قسري، وردها فريق آخر إلى الموقع الجغرافي الذي أسفر عن حضور الغرب بقوته العسكرية في الوطن العربي، وهو ما نتج عنه الربط بين مفاهيم الإصلاح والاستعمار وحركات التغريب.

 

وفي مقابل رفض السيد وتياره للفكرة في مصر، وجدت فكرة المستبد العادل في بلاد الشام أنصاراً لها على يد (عبد الرحمن الشهبندر) في ثلاثينيات القرن العشرين مع بعض التعديل، فقد رأى الشهبندر أهمية الحياة النيابية بالنسبة للأمم الواقعة تحت الانتداب والاستعمار، فما إن تستقل وتحصل على حريتها، فإنها تحتاج إلى مستبد عادل ينقذها من فوضى مرحلة ما بعد الاستقلال،وذلك في سياق انتقاد الشهبندر للتجارب البرلمانية في العالم العربي.

 

ويرى المؤلف أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد تحول فكرة المستبد العادل إلى واقع مع حضور نموذج جمال عبد الناصر، وهي نتيجة يخلص إليها بالاعتماد على مذكرات ثروت عكاشة، أحد المقربين من عبد الناصر وعضو تنظيم الضباط الأحرار، ومؤكداً اطلاع عبد الناصر على هذه النظرية وسعيه لتجسيدها من خلال حرصه ضرورة تمركز السلطة في يديه، ليكون له حق اتخاذ القرار منفرداً.