ماذا سيكتب التاريخ عن الجدار الفولاذي ؟
11 محرم 1431
عبد الباقي خليفة

في ذكرى العدوان الصهيوني على غزة، ومتاعب جدار الفصل العنصري الصهيوني لا تزال متواصلة، وآلام الفلسطينيين تتصاعد، في هذا الظرف، وهذه الفترة الحرجة التي تهود فيها القدس، وتتضاءل فيها فرص ( السلام العربي الرسمي ) ويتلقى فيها الفلسطينيون اللطمات وراء اللطمات، وليس آخرها رفض تقديم طلب اعلان الدولة الفلسطينية على حدود 1967 إلى مجلس الأمن من قبل الغرب. في هذه المرحلة التي يعود فيها ملوك الطوائف رافعين فيها أعلام التجزئة عبر إعلام الهزيمة، ومستعينين بأكثر من فرناندو وأكثر من ايزابيلا، على تعميق جراح الأمة، وحفر الأخاديد، ووضع الأسافين، وبناء الجدر. وسط هذه المعمعة الكبرى يتلقى الفلسطينيون والمسلمون بمن فيهم العرب الضربة الغادرة من الظهر، وهي ضربة نوعية تختلف عن غيرها من الضربات الجبانة والخائنة، لتكشف أن " ابن العلقمي " وغيره من الساقطين في امتحانات التاريخ، ظاهرة تاريخية تظهر وتختفي في الأزمنة والأمكنة.

 

ومن المفارقات أن يكون الكيان الصهيوني هو أول من أعلن عن الجدار الفولاذي بأضلاعه الثلاثة، الفكرة الصهيونية، والصناعة والتمويل الأميركي، والتنفيذ ( المصري ). وسكت النظام المصري الرسمي ( دهرا ) ليقول بصوت مبحوح عبر وزير الخارجية أبو الغيط أن " الجدار مسألة سيادية " فمتى كان الكيان الصهيوني ناطقا رسميا باسم سيادة مصر ؟!
ومتى كانت المسائل السيادية تملى من الخارج، مع وجود جهات أميركية على علاقة ببناء الجدارالعار كما سماه بعض أحرار مصر. فالجدار الفولاذي يمثل الضلع الثاني لمقص الاجرام الصهيوني لقطع شريان الحياة عن مليون ونصف المليون من البشر في غزة. فهو يهدف من جملة ما يهدف إليه إلى منع تمرير الغذاء والدواء، وما يحتاجه الفلسطينيون للحياة في ذلك المعتقل الكبير المسمى غزة.

 

إن التبريرالذي ساقه النظام المصري لا يمكن أن يكون مقبولا، في غياب الشعب المصري الذي لم يستشر ولم يؤخذ رأيه فيما اتخذ باسمه من اجراءات. وكيف يمكن الاقدام على هكذا قرارات تلمس بعمق كرامة مصر وقلب مصر وروح مصر وتاريخ البلاد ومستقبلها، دون أن يستفتى الشعب في ذلك، والنظر فيما يمكن أن تقوله الأجيال القادمة عن هذه الحقبة البائسة من تاريخ مصر.

 

إن الجدارالفولاذي مسألة في غاية الخطورة، وتكمن خطورته في نوعيته فهو الأول من نوعه تقريبا على مستوى العالم. إنه أشبه ما يكون بخندق طيني يحول الحدود بين مصر وفلسطين وتحديدا غزة إلى بحر من الأوحال من خلال إنزال مواسير من الفولاذ في أخاديد محفورة بشكل لولبي وعلى عمق يترواح بين 20 و30 مترا. ويمد المواسير المذكورة بالماء " حلقوم " موصول إلى البحر، وبما أن المواسير مثقبة باتجاه الجانب الفلسطيني فإن مياه البحر المتسربة في عمق التربة لن تؤدي إلى إحداث تصدعات وانهيارات تؤثر في عمل الأنفاق على طول الحدود، كما أعلن فحسب، بل لها تأثير على خصوبة الأرض والبيئة أيضا. وإذا ما نجحت التجربة فإن الكيان الصهيوني سيعمد لاقامة مثل ذلك الجدار على الحدود الفلسطينية المصرية، وداخل الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع وغير ذلك من الجزر المعزولة فيما يسمى بالدولة الفلسطينية الموعودة. ولا يمكن لمصر أوالاردن أو سوريا أو لبنان الاعتراض على ذلك طالما سبقت إلى هذه الاجرات، الشقيقة الكبرى، مصر. !!!

 

وربما تكون اللعبة الصهيونية الجديدة، واحدة من الخدع، وواحدة من اللدغات التي أصابت مصر أكثر من مرة، في ظل النظام القائم. فطالما صدقت مصر الرسمية، وعود السلام الصهيوأمريكي. وطالما هدد الصهاينة مصر باغراق القاهرة بضرب السد العالي، عما يدفع الكثيرين للسؤال عما إذا كان هناك علاقة بين إغراق مستخدمي الأنفاق بالماء المتسرب إليها من المواسير، وتدمير الأنفاق نفسها، وبين مخطط إغراق القاهرة بمياه النيل وفق الاستراتيجية الصهيونية، مع عجز نظام تصريف المياه في العاصمة المصرية عن استيعاب كميات المياه الهائلة المتدفقة من السد العالي في حال ضربه من قبل الكيان الصهيوني كما هدد ليبرمان ؟!!!

 

والسؤال الأهم هو أيهما أهم حدود غزة، أم البحث عن حلول لكارثة محتملة في حال ضرب السد العالي، ولو بعد 100 سنة، من خلال جملة من الاجراءات الهندسية والكهرومائية، وغيرها من الحلول التي يراها أهل الاختصاص ؟!!!
أو كان أهم من ايجاد حلول لملايين العاطلين عن العمل،وملايين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وملايين الذين لا يملكون مساكن، وملايين الذين لا يستطيعون اكمال دراستهم لقلة ذات اليد، وملايين السباب والشابات العاجزين عم الزواج بسبب الوضع الاقتصادي.

 

إن الجدارالفولاذي الممتد على طول 9 كيلومترات، بين غزة ومصر سيجلب كارثة على الشعب الفلسطيني، كما أكد القادة في غزة، والخبراء والمراقبون، وانخراط في المخطط الصهيوني لتركيع غزة، وتمرير المشروع الصهيوني الذي يواصل تهويد القدس وتوسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومشاركة في العقاب الجماعي الذي تفرضه الدولة الصهيونية بمشاركة الولايات المتحدة. فلو كان ما يمر عبر معبر رفح كافيا لما اضطر الفلسطينيون لحفر الأنفاق لجلب الطعام حتى يبقوا على قيد الحياة. فالفلسطينيون ليسوا مثل الصهاينة الذين يرحب بهم ويدخلون مصر للتجسس وبيع المخدرات كما حصل مؤخرا، وأطلق سراح جميع الصهاينة بينما يموت الفلسطينيون تحت التعذيب في مصر لأنهم فكروا في اللجوء ( للشقيقة الكبرى ) ليطعموا أنفسهم وأطفالهم ونسائهم من جوع.

 

ولا شك فإن الصهاينة لا يتحدثون عن الطعام رغم حرصهم على موت الفلسطينيين جوعا، وإنما يتحدثون عن الأسلحة، وهذا هو سبب حرصهم على غلق ملف الأنفاق نهائيا. وإدخال الأسلحة إلى غزة وليس تهريبه منها، لا يمس الأمن القومي المصري في شئ، بل تعضيد له، اللهم إذا ربط البعض بين الأمن القومي المصري، وأمن الكيان الغاصب في  فلسطين، وهذا لا يقول به وطني شريف في مصر أو غيرها من البلاد.

 

وربما يفسر البعض حرص الكيان الصهيوني على غلق الأنفاق، ووقف تهريب الأسلحة، من قيام المقاومة بعمليات ضده، وهو حق مشروع تكفله الشرائع والمواثيق الدولية، بل يفتخز الصهاينة كذبا أنهم قاتلوا من مكنهم من احتلال فلسطين ويدرسون هذا لأطفالهم. ومع وجاهة هذا التفسير، وحمله اتهاما للنظام المصري بأنه يحرص على أمن الصهاينة، أكثر من حرصه على أمن الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة في التحرر من ربقة الاحتلال الصهيوني، والعيش بأمان في أراضيهم، فإنه يخفي الحقيقة الكاملة المتمثلة في حرص الصهاينة تجريد الفلسطينيين والمسلمين على مختلف قومياتهم من السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم ليكونوا لقمة سائغة للأعداء. وحتى يكون طريق احتلالهم احتلالا مباشرا، كما تظهر ذلك الخطط المسربة، سهلا وبدون ثمن غالي التكلفة، كما هو الحال في العراق وأفغانستان. وهذا الحرص يبرز بجلاء نية الكيان الصهيوني تجديد عدوانه على غزة، كما حصل نهاية العام الماضي بغطاء ( فلسطيني، عربي ) لتحقيق الأهداف المشتركة المتمثلة في القضاء على المقاومة من خلال إسقاط حماس. وهو مشروع لا يزال قائما، وورقة ( المصالحة ) المصرية تدل على ذلك، وتعطيل صفقة إطلاق الأسرى رافد من روافد ذلك المشروع، وإمكانية تجديد العدوان على غزة، كما أشار إلى ذلك العديد من الفاعلين على المستوى السياسي والاعلامي ومن داخل صف المقاومة احتمال وراد والاستعداد لذلك فريضة وضرورة.

 

وخطيئة النظام المصري أنه يفهم القضية الفلسطينية بالطريقة الخطأ، ويريد أن تكون القيادة الفلسطينية على شاكلته، تحكم بدون مراعاة لتوجهات الشعب واختياراته الحرة. ويرى في ذلك مأساة كبرى بتعبير أبو الغيط، بينما المأساة الكبرى في وجود قيادات غير منتخبة، وتفضل مصالحها الشخصية والحزبية على قضايا الشعب والبلاد والأمة. وتحتكم لآليات تحددها شهوة السلطة، والضغوط الخارجية، ومتطلباتهما من خلال المؤامة بينهما. فمن يخضع للاملاءات الخارجية، ويحرص على البقاء على السلطة مهما كان الثمن، لا يمكنه أن يضحي من أجل مصر، فضلا عن القضية الفلسطينية.
فموقف محمود عباس لا يختلف عن موقف أبو الغيط، فقد أيد الاجراءات المصرية. واستمرار الدور المصري في القضية الفلسطينية والذي لم يجلب سوى الكوارث لو قمنا بجرد الأرباح والخسائر.

 

لقد غاب عن الأعداء والمتآمرين أن الذي أبدع الأنفاق، لن تعجزه الوسائل التي تفشل مكر الصائلين والبيادق، وتقلب حساباتهم بعون الله، كما حصل في العدوان السابق الذي مر عليه عام حتى الآن، فقد عاد العدو بالخيبة والمتآمرين بالخسران في الدنيا والآخرة، والمجاهدين بالأجر والثواب، نصرا وشهادة.