ضريبة الموقف
28 محرم 1431
د. جاسم الشمري

الأصالة في الإنسان تعني أصالة الموقف والمبدأ، والإنسان بلا موقف لا مكان له في قافلة الحق.
والمواقف والمبادئ تبرز في وقت الأزمات، وليس في وقت الراحة والدعة والاطمئنان.
ومن اشد صنوف البلاء في العصر الحديث الاحتلال العسكري، ناهك عن الاحتلال والثقافي وهذا ما حدث بالضبط في العراق.
فبعد الاحتلال ـ بل للحق قبله ـ انقسم الناس بين من يدعو لتغيير النظام السابق، ويبين من فهم اللعبة وعرف أن العراق سيدخل في ظلمات لا نهاية لها وهذا ما حدث بالفعل.
وبعد الاحتلال استمر من استمر على موقفه، وتخاذل من تخاذل، وانقسم الناس إلى فريقين فريق مع الاحتلال، وفريق مع المقاومة ورجالها .
واستمر موقف الفريق الثاني البطولي حتى نهشت المليشيات الإجرامية أعراض وحياة كل من يقف ضد الدمار والأحزاب والاستهتار الأمريكي البريطاني في العراق، وكانت النتيجة قتل على الهوية واعتقالات ملئت السجون السرية والعلنية، وصار منظر الجثث المجهولة على المزابل وقارعة الطريقة وصورا مألوفة للعراقيين .
وحينما رأى العقلاء من الناس أن المواجهة يراد منها إشغال نار لحرب أهلية، وخصوصا بعد تفجير مرقد الإمامين في سامراء، وفي ظل تآمر قوات الاحتلال والأجهزة الحكومية، اضطرت مئات الآلاف من العوائل الهجرة داخل وخارج العراق، وكانت النتيجة أربعة ملايين مهجر في أرجاء الدنيا.
وبعد الهجرة وجدت هذه العوائل نفسها إمام مشاكل لم تكن في حساباتها، ولم تكن تتوقعها، والمشكلة الأولى التي واجهت العراقيين في الخارج، هي الإقامة في البلدان التي هاجروا إليها، ثم كيفية نقل ملفات أبناءهم من المدارس العراقية إلى مدارس الدول التي هاجروا إليها، وكذالك معادلة الشهادة الدراسية بين النظام التدريسي العراقي ونظام الدول التي يتواجدون فيها.
وبعد أكثر من خمس سنوات من الغربة وجدت هذه العوائل نفسها قد فقدت جملة من الضروريات الحياتية الإنسانية ومنها:-
1 . فبعد أن فقدت وطنها الكبير، العراق، حيث يعبث الغرباء في أرجائه، نجد أن هذه العوائل قد فقدت مسكنها بكل ما فيه من محتويات وأثاث على اعتبار أنه محصلة العمر كما يقال، وقد اضطرت هذه العوائل لبيع ما تملكه بأبخس الأثمان؛ لأنها في المحصلة ستكون من حصة المليشيات الإجرامية التي تداهم المنازل بحجة البحث عن مطلوبين.
2 . فقد الموظفون من هذه العوائل مصادر رزقهم، واعتبروا في ضوء القانون الوظيفي من المستقيلين، ولا ندري بأي ميزان وقانون تمت إقالتهم؟!! 
3 . أما في البلدان التي يتواجدون فيها فإنهم يعانون من مشاكل مادية؛ بسبب عدم السماح لهم بالعمل في البلدان التي هاجروا إليها؛ مما جعلهم يلجان إلى المنظمات الدولية، والتي تقدم لها فتات المائدة  بحيث إن ما يقدم لا يسمن ولا يغني عن جوع.
4 .عجز هذه العوائل عن استمرار أبنائها في دراستهم، وخصوصا الجامعية بسبب ارتفاع أجور الدراسات في الدول التي هاجروا إليها، بينما الدراسة في العراق هي مجانية ولكافة المراحل، مع تقديرنا للدول التي تعامل طلبة المدارس في المراحل غير الجامعة معاملة خاصة طيبة.
5 . معاناة هذه العوائل  وعجزها عن معالجة الحالات المرضية التي يعاني منها بعض أفرادها ؛ وذلك لارتفاع أجور العلاج والدواء في الدول التي يتواجدون فيها.
على العموم هذا الذي ذكرنه هو جزء من المأساة التي تعانيها الجاليات العراقية في الخارج.
وفي المقابل نجد أن الحكومة الحالية في العراق والتي تدعي أنها لا تفرق بين العراقيين وأنها تعمل من اجل خدمتهم، أقول نجد هذه الحكومة تقف متفرجة على هذه المأساة، وكان الأمر لا يعنيها، وكأن مليشياتها وأجهزتها الأمنية لم تكن السبب وراء هذا التهجير الإجرامي لملايين الناس.
أخيراً، هي دعوة لكل الدول العربية للاهتمام أكثر بالعراقيين في الخارج، لأننا لا نرجو خيرا من الحكومات التي نصبها المحتل.
والاهتمام العربي يمكن أن يكون عبر فتح مستشفيات، أو تكفل الدراسة الجامعية لأبناء الجالية العراقية في الدول التي يتواجدون فيها وخصوصاً سوريا والأردن ومصر ولبنان وتركيا، وغيرها.
وهذا جزء من حقوق الأخوة، وجزء من الدعم المطلوب عربياً للعراقيين.
هذه المعاناة هي جزء من ضريبة الموقف التي دفعت ـ وما زالت تدفع ـ من قبل العراقيين الرافضين للتواجد الأجنبي في العراق، وهو جزء من ثمن النصر العراقي القادم على الأعداء والخونة الغرباء.
وصدق الشاعر إذ يقول:ـ
يا صبر أيوب، ماذا أنت فاعلهُ
إن كان خصمُكَ لا خوفٌ، ولا خجلُ؟
ولا حياءٌ، ولا ماءٌ، ولا سِمةٌ
في وجهه.. وهو لا يقضي، ولا يكِلُ
أبعد هذا الذي قد خلفوه لنا
هذا الفناءُ.. وهذا الشاخصُ الجـَلـَلُ
هذا الخرابُ.. وهذا الضيقُ.. لقمتُنا
صارت زُعافاً، وحتى ماؤنا وشِلُ
هل بعده غير أن نبري أظافرنا
بريَ السكاكينِ إن ضاقت بنا الحيَلُ؟!
يا صبر أيوب.. إنا معشرٌ صُبًُرُ
نُغضي إلى حد ثوب الصبر ينبزلُ
لكننا حين يُستعدى على دمنا
وحين تُقطعُ عن أطفالنا السبلُ
نضجُّ، لا حي إلا اللهَ يعلمُ ما
قد يفعل الغيض فينا حين يشتعلُ!
[email protected]