24 ذو القعدة 1431

السؤال

أنا فتاة تقدم لخطبتي شاب منذ أشهر؛ وهو شاب نحسبه- والله حسيبه- ذو دين، لكن من منطقة بعيدة عن منطقتي نوعًًا ما، أنا قبلت به، وتعرفت عليه فترة من الزمن، وكان أساس قبولي له الدين فقط؛ لأنه ملتزم في ظاهره، ووجدت فيه صفات إيجابية وأخرى سلبية؛ سواء على مستوى دينه أو خلقه.
وصدمت ذات مرة عندما سمعته يقول كلامًا بذيئًا، وهو غاضب من أحدهم، وكانت هذه الحادثة سببًا في نفوري منه، لكنني أرسلت له، ونصحته بأن يطهر لسانه من هذه الأقوال، وأنكرت عليه، فاعتذر وأقر بخطئه، ووعد بألا يتكرر الأمر، والله أعلم.
أما معاملاته فأنا اختلف معه في الطباع؛ فطباعه ليست الطباع التي كنت أصبو إليها في الرجل، لكن كل إنسان وشخصيته، ولا يمكنني أن أجد شخصًا يتوافق معي في كل الأمور، وربما شروطي صعبة نوعًا ما، وقليل هم الشباب الملتزمون في بلدي، فقلة هم الذين يعفون لحاهم، وهو والحمد لله ملتحٍ، ويهتم بطلب العلم، والله أعلم بالسرائر.
وكنت أخشى ألا أجد رجلا يحل الدين في المقام الأول من حياته، ويكون أساس معاملاته، فقبلت به رغم معارضة أهلي لي؛ لأنهم لا يعرفون الشاب إضافة إلى أني سأنتقل للسكن معه بعد الزواج بعيدًا عن منطقتي، وكذلك فإن ظروفه المادية ليست جيدة، ولا يعرفون شيئًا عنه ولا عن عائلته، والسؤال والتحري صعب خاصة أننا لا نعرف أحدًا في منطقته، والناس الآن في هذا الزمن يخافون من الشهادة وتزكية أحدهم أو ذمه.
وقد أرسل الشاب أهله للتعرف على أهلي؛ والى الآن لم تتم الخطبة الرسمية؛ لأن العرف في بلدي قائم على أن الخطبة تتم في شكل حفلة بسيطة يحضرها أهل الشاب وأهل الفتاة، فتتم الخطبة، ويحدد موعد الزواج.
ومؤخرا تقدم لخطبتي شابٌ آخر؛ لم يكن يعرف بالخطيب الأول، وهو ذو دين؛ حسبما وصفه لي من حولي، وهو من منطقتي، اضافة إلى أن ظروفه المادية جيدة، وعائلته كذلك طيبة، وقد أعجب عائلتي.
وأنا في حيرة من أمري، أخشى أن أجاري عائلتي، وأرضيهم، وأقبل بالثاني، وأعلم الأول أني لا أستطيع أن أكون زوجة له؛ فأكون بذلك قد ظلمت الأول، وجرحته، خاصة أنه تعلق بي، وبنى آمالا أن أكون زوجة له في المستقبل، وسأكسر خاطره، وقد لا يثق بغيري مستقبلا؛ بسبب خيانتي له، وانسحابي بعد أن طمأنته بالقبول، وأنا لا أريد أن أذنب في حق أحد، أرضى التعاسة لنفسي في سبيل سعادة غيري، وألا أكون سببًا لجرحه، وأخشى أن أقبل الأول فأندم فيما بعد لأني لم أستجب لعائلتي، وأكتشف فيه صفات لم أكن أتوقعها، وأنصدم بواقع لا أستطيع معايشته.
أنا في حيرة، وأخشى أن تكون هذه فتنة من الشيطان، صليت الاستخارة أكثر من مرة، وحيرتي متواصلة، علما بأن هذه أول مرة يحصل لي فيها هذا؛ فخلال فترة علاقتي مع الأول تقدم لخطبتي العديد، وكنت أرفض بلا أي تردد، اما هذه المرة فعلى غرار العادة أثرت الحادثة في نفسي، أفيدوني بارك الله فيكم.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أختنا الفضلى:
السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكِ، وشكر اللهُ لكِ ثقتكِ بإخوانِكِ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:

الأصل في ديننا أن ألا يخطب المرء على خطبة أخيه؛ فعن ابن عمر (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) أن رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) قال: "لا يبع بعضكم على بعض، ولا يخطب على خطبة أخيه؛ إلا أن يأذن له" (متفق عَلَيْهِ. وهذا لفظ مسلم). وعن عقبة بن عامر (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أن رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) قال: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" (رواه مُسْلِمٌ).

وأنتِ وإن كنتِ قد أشرتِ في رسالتك إلى أن الخطيب الثاني "لم يكن يعرف بالخطيب الأول"؛ فقد كان واجبًا عليكِ أن تخبريه بأن هناك من تقدم لكِ قبله، وأنكم لم تحسموا أمره بعد، وكان عليه آنذاك أن ينسحب؛ احترامًا لهدي النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولو مؤقتًا؛ حتى يُحْسَمَ أمرُ الخطيب الأول، فإن تمت الخطبة فعليه أن يعلم أن الزواج "قسمة ونصيب" كما يقولون، وإن فشلت الخطبة لأي سبب كان، دونما تدخل منه، فإن بإمكانه أن يتقدم آنئذ، فالطريق قد أصبح خاليًا، ولا حرج عليه من ناحية الشرع أو العرف، لكن أما وأنكم لم تخبروه، وهو كما قلتم "لم يكن يعرف بالخطيب الأول" فإنك قد قدر لكِ أن تصبحي في موضع اختيار وترجيح.

ولا شك – أختنا في الله- أن الزواج رزق، وأن الرزق مقدور في علم الله قبل أن نخرج للحياة، ولا يستطيع أحدٌ كائنًا من كان أن يغير في قدر الله (سبحانه وتعالى)، كما أن قرار الاختيار في النهاية هو قرار خاص بكِ وحدكِ، ولا بد أن تمتلكي الشجاعة الكافية لأخذه منفردة، غير أن الواجب علينا نحن – إخوانكِ في الدين- أن نقدم لكِ المشورة طالما أنكِ أرسلتي تستشيريننا، وأن نبذل لك النصيحة المخلصة طلما أنكِ طلبتِها منا، لذ فسأنتهج في الرد على سؤالكِ الطريقة الشرعية، فنوضح لك ما يجب علينا توضيحه، دون أن نرجح لكِ أحدهما على الآخر، على أن نترك هذا الترجيح لرجاحة عقلكِ ونظرتك الثاقبة، وفوق هذا كله وقبله توفيق الله (عزو جل).
فمن خلال قراءتي لرسالتك جيدًا، لأكثر من خمس مرات، وتحليلي لأوضاع وأحوال وأخلاق الخطيبين، يمكنني أن أوضح لك بعض الفروق التي وردت على لسانك أنتِ، في رسالتكِ التي وصلتنا منكِ، وهي مرتبة كما وردت من حيث:-

1- الدين والخلق: حيث لاحظت ثناءك على دين وخلق الخطيب الثاني بقولك "هو ذو دين"؛ بخلاف الخطيب الأول الذي وأن قلتي أنه " ذو دين"، إلا أنك استدركتي فقلتي: "سمعته يقول كلامًا بذيئًا"!.
2- الاطمئنان والتزكية: حيث لاحظت اطمئنانكِ للخطيب الثاني بعدما زكاه لكِ بعضُ من يعرفونه ممن تثقين في دينهم ممن هم حولك؛ بخلاف الخطيب الأول الذي قلتي أنكم "لا تعرفون شيئًا عنه"، وأن "السؤال والتحري صعب خاصة أننا لا نعرف أحدًا في منطقته".
3- التوافق في الطباع: حيث لاحظت تأكيدك على اختلاف طبائع الخطيب الأول عن طبائعكِ، فجاء على لسانكِ قولُكِ عنه: "أنا اختلف معه في الطباع؛ فطباعه ليست الطباع التي كنت أصبو إليها في الرجل".
4- القرب المكاني: حيث لاحظت قولك عن الخطيب الثاني: "هو من منطقتي"، بينما قلتي عن الخطيب الأول أنه "من منطقة بعيدة عن منطقتي نوعًًا ما"، وأتبعتي ذلك بقولك: "إضافة إلى أني سأنتقل للسكن معه بعد الزواج بعيدًا عن منطقتي" أي أنه من منطقة بعيدة عن منطقتك التي نشأتي بها، وأنه سيأخذك لتعيشين بعيدًا عن منطقتك بعد الزواج!.
5- الظروف المادية: حيث وصفتي أحوال الخطيب الثاني بقولك: "ظروفه المادية جيدة"، بخلاف الخطيب الأول الذي قلتي عنه أن "ظروفه المادية ليست جيدة".
6- الأصل والحسب: حيث أثنيتي على عائلة الخطيب الثاني بقولك: "عائلته كذلك طيبة"، فيما تحدثتي عن الخطيب الأول فبينتي أنك وأهلك لا تعرفون شيئًا "عن عائلته".
7- موافقة الأهل: وفوق هذا وذاك فقد نال الخطيب الثاني إعجاب عائلتك بينما أوضحتي أنك قبلتِي بالخطيب الأول "رغم معارضة" أهلك.

أختنا الكريمة:
نصيحتي لكِ ألا تُحَمِّلي نفسَكِ ما لا تطيقين، وألا تكلفينها ما لا تستطيع، فقد أشفقتُ عليكِ كثيرًا وأنا اقرأ الجزء الأخير من رسالتك، والذي احتوى على عدة عبارات كنتي فيها قاسية على نفسك إلى أبعد الحدود، وهو ما تجلى من قولك: "أنا في حيرة من أمري"، "أخشى أن.. أقبل بالثاني،... فأكون بذلك قد ظلمت الأول وجرحته"، "سأكسر خاطره"، "قد لا يثق بغيري مستقبلا؛ بسبب خيانتي له"، "لا أريد أن أذنب في حق أحد"، "أرضى التعاسة لنفسي في سبيل سعادة غيري"، "أخشى أن تكون هذه فتنة من الشيطان".

وختامًا؛ نسأل الله (عز وجل) أن يهد قلبكِ إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة، وأن يختار لك الأصلح، وأن يصرف عنكِ كيد الشيطان ومكره.. اللهم آمين.. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.