آبيي.. مدخل غربي لتدويل الصراع بين العرب والأفارقة
9 محرم 1432
جمال عرفة

عندما تدخل الغرب في قضية دارفور ولم يجد مدخلا مناسبا لتدويل المشكلة كمبرر للتدخل الدولي ضمن مخطط تفتيت السودان، اخترع مقولة التدخل "بذريعة إنسانية"، لأن تدخلاتهم السابقة في العراق مثلا بذريعة القضاء على "أسلحة الدمار الشامل" ثبت وقتها أنها كذبة كبيرة، ولذلك جاءت الحملة الغربية منسقة بصورة كبيرة في دارفور معتمدة علي كذبة الصراع العربي – الأفريقي في دارفور وأن العرب يقتلون الأفارقة هناك برغم أن كل أهل دارفور مسلمون ، ودارت العجلة الصهيونية والغربية ضمن ما سمي (تحالف إنقاذ دارفور) لخلق صورة إعلامية سوداوية زائفة للوضع في دارفور تظهر السودانيين من أصل عربي في دارفور بأنهم يقتلون ويذبحون إخوانهم المسلمين السودانيين من أصل أفريقي الذين يتعايشون معا منذ مئات السنين!

 

الآن وفي ظل حالة التسخين المتصاعد والتدخلات الغربية لإنفاذ مخطط فصل الجنوب باستفتاء مزور في الجنوب وتنشيط خطة تفتيت السودان، يتصاعد الحديث عن قضية مماثلة في آبيي التي يوجد بها قرابة مليون من أهل السودان العرب من قبيلة المسيرية يمتلكون قرابة 10 ألاف رأس بقر، و9 "مشيخات" لقبائل الدينكا بور ذوي الأصول الأفريقية ، ويجري النفخ في نيران العصبية القبلية والعنصرية بين الجنس العربي والأفريقي كما فعلوا في دارفور، مستندين لاختلافات جوهرية بين العرب والأفارقة في آبيي تصلح لتكون وقودا للصراع بأفضل مما هو الحل في دارفور التي فشلوا في تأجيجها، لأن أبناء دارفور كلهم مسلمون ومتصاهرون ويعيشون مع بعضهم البعض دون أي تفرقة بين أفريقي وعربي لأنه يصعب هذا التمييز وكلهم مزيج من أصول عربية وأفريقية، بخلاف الوضع في آبيي حيث العرب مسلمون والدينكا وثنيون في أغلبهم أو مسيحيون ويسهل الوقيعة بينهم سياسيا رغم أنهم يعيشون مع بعضهم البعض منذ مئات السنين هناك!

 

بعبارة أخرى ينحو المخطط الغربي حاليا ليس لحل مشكلة استفتاء جنوب السودان وإنما اتخاذ مشكلة آبيي الذي هي – كما يقول الصادق بابو نمر أحد قادة المسيرية – "الخنجر المسموم المسلطة علي اتفاقية سلام الجنوب " ، أما الحل – كما يوضحه الدكتور وليد سيد رئيس مكتب حزب المؤتمر الوطني في القاهرة – فليتلخص في السعي لتوسيع الدور الخارجي المتدخل في المشكلة وتوسيع دائرة الخلاف بين الدينكا والمسيرية مع استمرار تعليق المشكلة ورفض الحركة الشعبية اقتراحات الرئيس البشير بحكم مشترك للمنقطة أو تركها مفتوحة للجميع، وهو ما سيؤدي لشد وجذب بين الطرفين ينتج عنه مستقبلا انضمام أطراف سودانية من أصول عربية لوجهة نظر المسيرية وأخرى افريقية لوجهة نظر الدينكا بور بما يؤدي في النهاية لتوسيع الصراع وتحويله إلي صراع عربي – أفريقي يسهم في مزيد من تمزيق السودان عرقيا وطائفيا ويخدم مخطط التفتيت الغربي؟!

 

والغريب أن أهالي المسيرية – و99% منهم ينتمون لطائفة الأنصار وحزب الأمة – انتقدوا حزب المؤتمر الوطني وقالوا أنه تفاوض باسمهم ودعوه للخروج من المشكلة وترك حلها للقبائل العربية والإفريقية المتعايشة مع بعضها البعض، بل ولم يعترفوا باتفاقات أبرمتها الخرطوم مع الحركة الشعبية، ودعوا نظرائهم في قبيلة الدينكا بور لإبعاد السياسة والحركة الشعبية الجنوبية بالمثل لحل مشاكلهم مع بعضهم البعض دون تدخلات سياسية، ولكن الحركة الشعبية ومنتسبين لقبيلة الدينكا لا يزالون يتشددون في مسألة وجود أي حقوق للمسيرية في المنطقة ويعتبرونهم مهاجرين ويعترفون فقط بحقهم في الرعي والمياه، برغم أن أبيي – بحسب الصادق بابو نمر أحد قادة المسيرية – لم تكن يوما من أرض جنوب السودان  كما أن المسيرية هم الأبكر حضورا وتوطينا فيها منذ القرن الـ 18 ، في حين توطنها الدينكا في القرن التاسع عشر وهذا ثابت في وثائق انجليزية!

 

ولهذا قيل أن وصف المسيرية بأنهم قبائل رحل في منطقة أبيي ينم عن الجهل التام بالمنطقة وتاريخها، فالمسيريون في منطقة أبيي التي حددت مساحتها محكمة لاهاي في يوليو 2009م بخط العرض 10.10 شمالا وخطي الطول 27 و19 شرقا وغربا مواطنون وليسوا رحلا، فهذه المنطقة تشمل قرى ثابتة ودائمة للمسيرية كقرى (مكينيس، العازة، أم خير، الدائري، الرضايا وقولي) وهي قرى يقطنها المسيرية خالصة وفيها مدارس ومزارع ومواطنون مقيمون طول العام، وهناك قرى يقيم فيها المسيرية تسعة أشهر في السنة وبها مدارس وأسواق خالصة للمسيرية كقرى (الدمبلوية، فول، سيدنا، بار، بربوج، أنقول وأم خرائط) ويشارك المسيرية الدينكا في كل من (أم بلايل، تاج اللي، اللو، النعام، ماكير، مربال الجاك) وفي أبيي المدينة يقيم المسيرية ولهم منازلهم التي يمتلكونها وتقدر الأسر المقيمة بأبيي بأكثر من (500) أسرة لا تعرف غير أبيي وطنا إلى أن أجبرتها حرب مايو 2008م على النزوح والتوجه شمالا وحرمتهم الحركة الشعبية من العودة إلى منازلهم بعد أن آلت لها الأمور بعد تشكيل ما عرف بإدارة أبيي بعد إتفاق خارطة طريق أبيي في يونيو 2008م، حيث احتلت منازلهم من قبل المجموعات التي جلبتها الحركة الشعبية لأبيي من خارج أبيي وبحماية حكومة الحركة في أبيي.

 

ولذلك هناك من يري في الخرطوم أن "خارطة طريق آبيي" الأخيرة ، جاءت لصالح حركة التمرد والقبائل الجنوبية، وأن ما جرى طبيعي في ظل سلسلة التنازلات التي سبق أن قدمتها الحكومة المركزية في الخرطوم لحركة التمرد الجنوبية (الحركة الشعبية) منذ توقيع اتفاق السلام الأصلي معها في نيفاشا عام 2005 .. وهناك من يرى في الجنوب أن ما جرى ليس أكثر من حق للجنوبيين وللقبائل الجنوبية هناك بعدما ظل بروتوكول آبيي معطلا منذ يناير 2005، وأنه كان لابد من ترسيم حدود آبيي ليس كعلامة علي تحديد مبكر لحدود الدولة الجنوبية تمهيدا للانفصال، وإنما كي يأتي استفتاء تحقيق المصير في نهاية الفترة الانتقالية في جنوب السودان عام 2011 معبرا عن الحقيقة وأخذا لرأي كل من ترى الحركة الشعبية الجنوبية أنهم سكان الجنوب، في حين يرى أصحاب الأرض أنفسهم من القبليين أنه لو خرج السياسيون من القضية فسوف يحلها القبليون بينهم وبين بعضهم البعض، وإن كان (جون مات مادوت) كبير أعيان الدينكا في مصر يرى أنه لا حق للمسيرية في الأرض، وأنهم فقط مرحب بهم كقبائل رحل ليأخذوا الماء ويرعوا في الجنوب، وبالتالي ليس من حقهم المشاركة في استفتاء تقرير مصير آبيي!

 

المسيرية .. ضحايا أم فائزون ؟
أحد أبرز التساؤلات التي طرحت حول تداعيات اتفاق خريطة طريق آبيي هو أن الاتفاق ظلم عرب المسيرية الذين ينقسمون لقبلتين هناك، وجاء لحساب مشيخات (عشائر) الدينكا نقوك السبعة في المنطقة، لأن عرب المسيرية يعود تاريخهم هناك لمنتصف القرن السابع عشر، وهم الذين استضافوا مشيخات الدينكا الفارة من حروب القبائل، ومع هذا فقد أصبحوا – وفق الاتفاق - أقلية رغم أنهم أغلبية وأصبح رئيس إدارة آبيي الجديد جنوبي دينكاوي ونائبه من المسيرية، ولم يعد لهم النصيب الأكبر من نفط المنطقة .
بل وقيل إن الاتفاق – الذي لم ينص على نسبة محددة تخصص لمنطقة آبيى من عائدات نفطها - واقتصر علي بند جاء فيه أن تسهم حكومة الوحدة الوطنية وحكومة الجنوب بنسبة 50% و25% على التوالي من نصيبها في عائدات النفط بالمنطقة لصندوق تؤسسه الرئاسة لتنمية المناطق على طول حدود الشمال والجنوب، ميّع القضية واستهدف هذا البند الالتفاف علي أي مطالبة مستقبلية من المسيرية بنصيب لهم من عائدات النفط .
وكل هذا أغضب قيادات المسيرية التي اشتكي بعضهم من تجاهلهم في المحادثات التي جرت بين شريكي الحكم مؤخراً، ولم يشارك حتى الذين يتمتعون منهم بعضوية المؤتمر الوطني فى المحادثات التي تمت بحضور الوفد الأمريكي أو التي تلتها، بالرغم من أن دينكا نقوك كانوا ممثلين في المحادثات بوزير الخارجية دينق ألور ووزير شئون رئاسة حكومة الجنوب لوكا بيونق.

 

ورغم أن مسئولين سودانيين قالوا لي أن الحكومة شاورت المسيرية قبل توقيع الاتفاق ما يعني أنهم موافقون عليه، فقد أظهر احتجاج قبائل من المسيرية لاحقا ولقاؤهم الرئيس البشير لنقل هذه الاحتجاجات على انتزاع إدارة المنطقة منهم، أن هناك قوى منهم ترفض الاتفاق وأن من تمت مشاورتهم لا يمثلون كل عرب المسيرية، ما يثير مخاوف كما يقول البعض، من أن يرفض هؤلاء الرافضون للاتفاق نتائج التحكيم الدولي النهائية التي سوف تحدد تبعية (آبيي) للشمال أم الجنوب وفق خرائط عام 1905 .
ولكن بالمقابل هناك من يرى أن المسيرية – مثلهم مثل الدينكا – سيكونون هم الفائزون علي المدى البعيد، لأن إحلال السلام في المنطقة سيعم علي الجميع، كما أنهم مشاركون في إدارة الإقليم عبر نائب حاكم المنطقة وعبر لجنة إدارة المنطقة، والأهم أن الاتفاق يعزز سلطة الدولة المركزية وحكومة الخرطوم في نهاية المطاف. وملخص الحل كما يراه الاتفاق الجديد يكمن في اللجوء لهيئة تحكيم يتفق عليها الطرفان: تكويناً ومهمةً، ليكون تقرير هذه الهيئة ملزماً وفي حالة فشل الطرفين في الاتفاق على مكونات هذه الهيئة يلجأ الطرفان مجدداً للأمين العام الدائم للمحكمة الدولية للنزاعات في لاهاي ليفصل في المسألة حسب الأعراف الدولية المرعية في مثل هذه الحالات.
ويسكن منطقة أبيى اثنان من بطون المسيرية هم : (المزاغنة) و(أولاد كامل) الذين تربطهم بدينكا نقوك مصاهرات عديدة، وهناك آراء مختلفة بينهم، جعلت البعض يقبل الاتفاق والبعض الآخر يرفضه ويحتج عليه .

 

سلطة الإقليم أهم من الدولة !
أيضا يبدو من حجم التنازلات التي قدمتها الخرطوم لإنجاز السلام بحسن نية، والاستفادة من سنوات ما قبل تقرير مصير الجنوب في تعظيم خيار الوحدة، أن خارطة طريق آبيي عظمت من شأن الأقاليم – جنوب السودان ككل ثم آبيي - علي حساب الدولة، واهتمت بإرضاء هذه الأقاليم علي حساب سلطة الدولة المركزية في حين أن هذه الأقاليم مجرد مناطق تحت سيطرة الدولة المركزية، وخطورة هذا المنهج وتقديم التنازلات الحكومية المستمرة للأقاليم والمناطق أنه يقلل من هيبة الدولة ويجعل مستقبل السودان معتمدا علي قدرة كل إقليم أو منطقة علي ممارسة أقصى درجات الابتزاز في وجه السلطة المركزية.. وهذا هو ما شجع حركات تمرد في دارفور للمناطحة الحكومة المركزية ووضع شروط تعجيزية للسلام بل والسعي للسيطرة علي هذه السلطة بالقوة (عملية أم درمان ) لفرض رأيها عسكريا بعدما فشلت في فرضه سياسيا !!

 

المشكلة بالتالي أن حكومة الخرطوم رضيت بالدنية في اتفاق سلام الجنوب فيما يخص آبيي أملا منها في أن هذه المشكلات لن يكون لها وجود أصلا عندما يصوت الجنوبيون للوحدة، ولم يضعوا حسابا للتدخلات الغربية وأجندة الحركة الشعبية الجنوبية المتمردة الخارجية ومشاركتها ضمن مخطط تفتيت السودان أو إبقائه موحدا بشرط واحد هو أن يلغي الشريعة ويتحول لسودان علماني، ولهذا تحولت آبيي لقضة حساسة تعرقل تحديد حدود دولة الجنوب المزعومة وتنغص حياة الخرطوم وتهدد كل السودان بالتحول لحرب قبلية يسعي الغرب لاستغلالها حاليا في نشر مزاعم عن وجود صراع قبلي عربي – أفريقي في آبيي لجذب العرب للمسيرية والأفارقة للدينكا وبالتالي عدم إحلال السلام في السودان أبدا وتفتيته بصورة بشعة!