من تونس إلى مصر... ثورة الشعب ما لها وما عليها!
22 صفر 1432
ياسمينة صالح

من يجرؤ على القول أن الثورة الشعبية التونسية الظافرة كانت ثورة أحادية القُطر، بمعنى أنها تخص التونسيين ليس إلا.. لعل ساركوزي قالها في بداية اندلاعها باعتقاد مسبق منه أنه سيحمي زميله الديكتاتور قبل أن يتبرأ منه في نهاية المطاف بعد الضغط الشعبي التونسي داخل فرنسا، الثورة استمرت، وتواصلت وتفاعلت ونجحت إلى حد كبير في بلورة تونس جديدة وشعبية.

 

 وقطعا ليس من المنطقي ولا العقلاني القول الآن، في هذه القراءة الهادئة، أن من سبب الثورة هو البوعزيزي بإحراقه لنفسه (نسأل الله أن يتجاوز عنه ويغفر له يتقبل دعوات المؤمنين بأن يرحمه فهو مولاه ومولانا لا إله إلا هو)، فقد أحرق شباب آخرون أنفسهم في مناطق عربية أخرى كالجزائر والأردن واليمن وحتى السعودية، ولم يحدث ما حدث في تونس، لأن الحقيقة التي بدت غائبة عن الكثير من المحللين، هي أن تونس كانت جاهزة للتغيير، فقد امتد الغضب من سيدي بوزيد إلى تونس العاصمة في ظرف ساعات، لأن التونسيين شعروا بالإهانة أن يتم تطويق إخوانهم في الجنوب وقتلهم بالرصاص الحي من قبل الشرطة التي استجابت لأوامر النظام البائد.

 

 لقد كانت تونس أرضية خصبة للثورة، لأن الظلم وصل للعظم، ولأن التسريبات التي قام بها ويكيليكس حول تونس بدت أشبه بالقطرة التي أفاضت الكأس، فقد شعر التونسيون بالإهانة وهم يقرأون حجم الخيانة الواقعة من قبل النخبة الحاكمة التي تتصرف بأموال وأعراض التونسيين دون خوف من الله، ثم من الشعب، صحيح أن التسريبات مست دول عربية كثيرة تعيش أوضاعا داخلية واجتماعية وسياسية مأساوية كمصر، وليبيا، والجزائر، والمغرب، واليمن وسورية، إلا أن الثورة نجحت في تونس، ويبدو حريقها ممتدا الآن إلى دول أخرى مثل مصر، واليمن والأردن بالخصوص، بيد أنه رغم ذلك كله لا يمكن القول أن التجربة الرائعة التي نجحت في تونس بفضل الله ثم بفضل الشعب التونسي يمكن أن تنجح في دول عربية أخرى، بنفس السياق وبنفس الطريقة، بسبب الوضع السياسي القائم داخليا والذي يختلف من دولة إلى دولة، وبسبب الموضع (لا أقول الموقع) الجغرافي لكل دولة أيضا، فتونس مهما قلنا عنها تظل دولة صغيرة جغرافيا ومن حيث التعداد السكاني، بما يعني أن القوة الأمنية وحتى العسكرية التونسية كانت محل استصغار من دول مجاورة حتى، مثل ليبيا مثلا التي كانت ترى في تونس مجرد دويلة بدليل النعرات العسكرية التي قام بها العقيد القذافي في الثمانينات من القرن الماضي ضد مدن تونسية تقع على الحدود الليبية وصلت إلى احتلال مدينة كاملة قبل أن يخرج الجيش الليبي منها بعد وساطة جزائرية/ مصرية وقتها، ناهيك على أن الديكتاتور التونسي نفسه كان منتهي الصلاحيات، وهروبه السريع جعل الثورة تحقق في الحقيقة كل أحلامها ببداية عهد تونسي جديد دون بن علي الذي أصبح التونسيون يطلقون عليه اسم "شين الهاربين"، وقد بدأت إجراءات المطالبة به لدى الأنتربول الدولي تعني ببساطة أنه لا يضيع حق وراءه مطالب.

 

صحيح أن المسار يبدو اليوم في حالة مخاض جديدة، وصحيح أن التونسيون أنفسهم يخشون من سرقة ثورتهم الفتية، وبالتالي العودة إلى نفس المرجعيات السياسية التي سنها النظام التونسي القديم بحجة حماية "الجمهورية العلمانية" كما بدأ يقول بعض المتزلفين القافزين إلى السطح السياسي، إلا أن الوعي الذي يبدو كبيرا لدى النخب الشعبية في تونس تجعل القول أنه من الصعب على شعب ثار بتلك الطريقة أن يقبل ببن علي جديد، وبديكتاتورية تحسب دقات قلبه. تونس تبدو اليوم قد خرجت من عنق الزجاجة إلى حين يثبت العكس، وإن غدا لناظره قريب !

 

هل سيصل حريق تونس إلى النظام المصري؟
في ظرف أيام معدودات، انتقلت الثورة الشعبية التونسية إلى دول عربية أخرى مثل اليمن، ومثل الدولة العربية المحورية الأهم في المنطقة وهي مصر، والحقيقة أن الثورة الشعبية في اليمن لو نجحت يمكن أن ينعكس ذلك على الشعب اليمني أكثر من انعكاسها على المنطقة تماما، بينما في مصر، لو نجحت هذه الثورة في إحداث التغيير الجذري والكامل فسوف ينعكس ذلك على الشعب المصري، وعلى الدول المجاورة أيضا وعلى كل المنطقة، لأن سقوط النظم المستبدة يشبه سياسيا بالزلزال الذي له دائما هزات ارتدادية تنتقل إلى من مكان إلى آخر، وهذه المرة سوف تنتقل للدول العربية الكبيرة، بمن فيها تلك التي تظن نفسها الأقوى والأكثر حصانة !

 

إنه من الخطأ الفادح القول أن تونس ومصر متشابهتان كدولتين عربيتين، فتونس في الحقيقة تظل دولة على حدا من حيث ميكانزماتها المؤسساتية، أو السياسية التي عمل عليها الطاغية التونسي وزمرته، على أساس علماني متطرف، أي تجفيف منابع البلد من الوعي القومي، وبالتالي من الوعي الديني، وبالتالي من الوعي الشعبي حتى إزاء علاقاتهم ببعض كأفراد أو كمواطنين، فعبارة النظام البوليسي في الحقيقة عبارة لا ترتقي إلى ما فعله النظام التونسي ضد شعبه، والأقرب إلى المعنى هو النظام القمعي الأكثر تطرفا والذي لم تكن لديه أدنى بدائل، ولا حتى أدنى مشروع سياسي أو اجتماعي يمكن أن يقدمه للشارع التونسي، وهو ما سارع في سقوطه، كما سارع في هروب بن علي بتلك الطريقة المهينة نحو الخارج !

 

لهذا السبب نقول أن مصر ليست تونس، فمصر دولة محورية، موجودة في قلب الصراع العربي "الإسرائيلي"، وفي مصر أكثر من 85 مليون مواطن (أكبر دولة عربية من حيث التعداد السكاني)، رغم أن مصر ليست كبيرة جغرافيا، ورغم أن ما يربط بين كل من تونس ومصر اقتصاديا هو اعتمادهما معا على المدخول السنوي الذي تجلبه السياحة، بحيث جعل ثمة مقاربة اقتصادية في طريقة التعاطي مع السياحة كعامل ثرواتي (من الثروة) مهم بالنسبة للاقتصاد، على الرغم أن التنمية تبدو متباعدة بين البلدين، ففي تونس نسبة أكثر بسبب التعداد السكاني الأقل من ذلك الموجود في مصر، لكن في المقابل، تكريس الفكر الحزبي المسدود هو الذي يجمع أكثر بين البلدين من منطلق الجملة السياسية بين الحزب الدستوري التونسي (الجزب الحاكم سابقا) وبين الحزب الوطني في مصر (الحزب الحاكم)، فنجد أن ثمة قواسم كثيرة بينهما في الحقيقة أهمها خرق القانون الداخلي وتجاوزه، وتكريس ثقافة الاستعباد والفساد والإفساد، عبر تحويل البلد إلى مزرعة شخصية بموجبها تحوّل المواطنين إلى عبيد من الدرجة الثالثة في بلاط الأثرياء، مما جعل الهوة تتسع أكثر بين الطبقة الغنية والطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة والفقيرة جدا والتي تتأسس منها النسبة الأكبر من الشعب 78%، وهي الأكثر خسارة، والأكثر عوزا وبالتالي هي الأكثر غضبا واستعدادا للانفجار. بما يعني أن الأخطاء السياسية المبنية على الانسداد تظل القاسم المشترك بين النظامين التونسي المخلوع والنظام المصري الراهن، وأكيد بين نظم عربية كثيرة تمارس حوار الطرشان مع شعوبها !

 

والحال أن السؤال الأهم هو إلى مدى يستطيع الشارع المصري أن يصنع التغيير داخل مصر؟ فكلمة الشارع صارت تعني أيضا النخب المثقفة، والنخب السياسية المعارضة، مثلما تعني أيضا الإخوان المسلمين، وطبعا العاطلين عن العمل والعائلات المحرومة من خبزها اليومي الخ.

 

ما يبدو جليا أن التجربة التونسية لا تبدو قابلة للتحقيق فيما يخص مصر، ليس لأن الشعب المصري أقل قدرة على تحريك المسار نحو الأمام أو نحو التغيير، بل لأن المصالح الدولية تلعب اليوم على الحبلين إزاء نظام مبارك وإزاء الشعب في نفس الوقت، وهي ترسل رسائل واضحة عن "مخاوفها" و"قلقها" إزاء ما يجري، وعن "تأسفها" لسقوط ضحايا، وهذا يعكس ترمومتر المخاوف الغربية إزاء تغيير حقيقي في مصر يمكن أن ينقلب على المصالح "الإسرائيلية"، فالخاسر الأكبر من التغيير الحقيقي والجذري والكامل في مصر هو "إسرائيل" ولا أحد سوى "إسرائيل"، وطبعا يأتي بعدهم الصهاينة العرب!

 

والفرق هنا كبير بين مصر وتونس التي كان نظامها غير ذي أهمية حتى على الصعيد الدولي بعد انتهاء صلاحياته السياسية وحتى الدستورية منذ على الأكثر عام 2005، (اللهم فرنسا التي كانت ترى في بن علي "شريكا كاملا" قبل أن تنقلب عليه 180%)!

 

إن نظرة واحدة عن تغيير في مصر سوف يعني ببساطة عودة حقيقية وكاملة لمصر كقائدة محورية في المنطقة، وبالتالي تستعيد كل ما فقدته طوال ثلاثين سنة الماضية، بحيث لن يجرؤ أحد على القول أن مصر لم تفقد مكانتها المحورية في الشرق الأوسط، على حد تعبير المفكر المصري محمد حسنين هيكل.

 

رهان التغيير في مصر سوف ينعكس على كل المنطقة العربية، لأن التغيير لن يكون تغييرا مصريا فقط، بل تغييرا عربيا وإسلاميا حقيقيا، وهو ما يتمناه كل الشرفاء من المحبط إلى الخليج، لأن مكانة مصر كبيرة في قلوبنا، ونعتقد أنه حان الوقت لتعود مصر عظيمة وقائدة، غير متسامحة مع مبادئها الأهم إزاء القضايا المصيرية، أولها القضية الفلسطينية، مع أن سياق التغيير يبدو صعبا في ظل ما نراه، لكنه أمل يبدو قائما بذاته ونور يبدو واضحا، بأن نصر الله سبحانه قادم بإذن الله تعالى.. فيا شعوب الأمة، هذا وقتكم للتغيير، لا صوت سيعلو فوق صوت الحق إن شاء الله.