ربيع العرب من أجل الإنسان
25 رمضان 1432
جمال سلطان

جمعتني أمسية رمضانية مع بعض المثقفين والكتاب العرب قبل أيام ، كان الحديث فيها بكامله تقريبا عن الربيع العربي ، أو الثورات العربية الجديدة التي تعيد تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة ، وتعيد تشكيل حتى صورة العربي والمسلم أمام العالم كله ، وجرى الحديث عن الثورة المصرية والثورة الليبية والثورة السورية بشكل أساس .

 

كانت الملاحظة الأساسية التي خرجت بها من الحوار أن قطاعا واسعا من المثقفين والنخبة العربية ما زالت قضية "الإنسان" غير حاضرة بشكل كاف في وعيه وفي ضميره وفي حساباته السياسية ، يكاد حق الإنسان في الحياة أو الكرامة أو الحرية أو الشراكة في مصير وطنه يكون منعدما أو هامشيا في اهتمامات النخبة العربية ، بينما يستحوذ جانب "الخارج" على جل الاهتمام وأغلبه ، وأذكر أنه عندما كانت الثورة المصرية متوهجة والمصريون يبحثون عن الحرية والانعتاق من أسر الديكتاتورية ونظام القمع والإرهاب الأمني والاستباحة السياسية والاجتماعية كان الأصدقاء العرب مهتمين أكثر بالسؤال عن دور مصر العربي وتأثير الثورة على القضية الفلسطية ، وانعكاسات الوضع الجديد على قضايا الخليج وإيران والعلاقة مع الولايات المتحدة ومستقبل المعاهدة المصرية الإسرائيلية ونحو ذلك ، كان من النادر أن يسألك أحد عما حققته الثورة "للإنسان" في مصر ، تشعر أنه غير معني بذلك ، أو يعتبره هامشيا ، هو لا يشعر بعذاباتك الحقيقية والمباشرة ويوميات الهوان ، لا يمكنه استحضار مشاعرك في زنزانة القمع أو على مسلخ التعذيب أو هوانك أمام ضابط صغير يبيعك ويشتريك ويسبك بأمك وأبيك واللي خلفوك ولا تستطيع أن ترفع رأسك عنده لأنه قد يكلفك حياتك أو نصف عمرك في غيابات السجون ، هو لا يفهم معنى أنك "ضيف" في وطنك ، مجرد مشاهد تليفزيوني لمبارة كرة قدم ، لا شأن لك بما يجري ، تدار بلدك بل يباع بلدك دون أن تملك أن تقول لا ، ينصبون لك سلاسل الحصار والإذلال من أول رئاسة الدولة إلى برلمانها إلى حكومتها إلى دستورها إلى قوانينها إلى أصغر مسؤول فيها رغما عن أنفك ودون أن يكون لك أدنى حق حتى في السؤال : لماذا ، هو لا يرى قيمة لمشاعر الانسحاق عندما تعجز عن أن تطعم أولادك أو تعلمهم أو تعالج تعالجهم أو توفر لهم زيا متواضعا في يوم عيد فتشعل النار في جسدك يأسا من الحياة أو تلقي بنفسك في النيل أو تموت كمدا كل يوم وأنت ترى خيرات بلادك تنهب بدم بارد وأنت الفقير البائس المطحون، هو ليس مهموما بالقيم الأساسية التي قامت الثورة من أجلها ، تحرير الإنسان وإقامة العدل وإنهاء الاستباحة الأمنية لأبناء الوطن وإعادة السلطة إلى الشعب ليكون صاحب قراره ومصيره بدون وصاية الفراعين وأبنائهم وإغلاق مخرات الفساد الهائلة التي استنزفت مقدرات شعب جاوز الثمانين مليون نسمة لا يملك ترف إهدار مئات المليارات من الدولارات في السرقات المنظمة والتهريب إلى الخارج ، تشعر أن "أهلنا" في الخارج غير معنيين بذلك كله .

 

عندما كنا نتحدث عن الثورة السورية وعن الفظائع التي يرتكبها نظام بشار الأسد وقتله بدم بارد المتظاهرين المطالبين بالحرية وإطلاقه ميليشيات مسلحة من البلطجية "الشبيحة" يراهم العالم كله رأي العين في الصور المهربة وهم يسحلون الشباب ويقتلونهم بالأسلحة البيضاء والنارية في الشوارع والأزقة ، والطاغية يحرك دبابات جيشه من أجل مواجهة المتظاهرين ويطلق قذائف الدبابات على البيوت والآمنين ويعلن الحرب على شعبه ، ودع عنك أنه واحد من أعتى النظم القمعية والمؤسس على إرهاب أمني واستخباري مروع ، أو أنه نظام استعبادي يعتبر الشعب ملكا ووراثة للأسرة حتى أن الأب حافظ عدل الدستور في نصف ساعة من أجل أن يكون سن رئيس الجمهورية على مقاس ابنه بشار لكي يرث سوريا كما لو كانت شركة استثمارية ، وعلى الرغم من تحول اقتصاد سوريا إلى مرتع للنهب البشع من عائلة الأسد وأصهارها ، وعلى الرغم من أن الأسد الأب والابن قتلا من الشعب السوري عشرات الآلاف بينما لم يقتلوا من "العدو" الصهيوني شخصا واحدا طوال أربعين عاما .

 

على الرغم من كل هذا إلا أنك تجد بعض المثقفين العرب إذا ما أتى الحديث عن هذه المحنة الإنسانية المروعة التي يعيشها ملايين السوريين تراه يحدثك عن إسرائيل والمقاومة والولايات المتحدة ، وكأن الشعب السوري كله سيصبحون خونة وعملاء والوحيد الذي يملك خلق النضال والأمين الوحيد على الولاء لفلسطين هو بشار وأسرته وعصابته ، وعبثا تحاول أن تقنع مثقفا يطربه "البلاغة" والخطب والكلام أكثر مما هو معني بالموقف والواقع والحقيقة التي نحسها ونعرفها بالأرقام والحسابات ، عبثا تحاول أن تقنعه بأن مثل بشار الأسد هو "هدية" لإسرائيل يصعب تعويضها ، وأنه مثل أي حاكم عربي آخر عمل على حماية حدود إسرائيل طوال أربعين عاما ، وعندما كان "يتهم" بأن نشطاء أو صواريخ كاتيوشا ساذجة أطلقت من أراضيه يسارع بالنفي والتبرؤ وكأنها جريمة ، وعندما يقوم طيران الصهاينة بقصف منشآته وتدمير بعض معسكراته وقتل جنوده يبلع لسانه وكأنه لا يرى ، لكنه يواصل الحديث عن الممانعة والمقاومة ، في صورة هزلية وسخيفة ، وأسخف منها أن يتعايش معها أو يروج لها مثقف أو مجرد عاقل ، أو أن تذكره بأنه النظام الذي قدم ولاءه للولايات المتحدة في مجلس الأمن ووقع بالموافقة على قرار غزو العراق .

 

أجل ما في ثورات العرب الجديدة وأروعها أنها تعيد الاعتبار "للإنسان" ، وكل القيم النبيلة التي تتصل به أو يبحث عنها من الحرية والكرامة إلى العدالة والأمن والأمان الحقيقي والشامل ، ولذلك انتصرت تلك الثورات وتوهجت بعيدا عن النخبة المثقلة بظلام عصور القمع المتراكمة والمتاجرة بقضية فلسطين ، أطياف جديدة وأجيال جديدة ، لا تعرف مثل هذه الرطانات المهينة للإنسان والمحقرة لقيمته والمرخصة لدمه وحياته وكرامته ، ثورات العرب تؤسس لعصر جديد يستعيد قدسية الحياة والإنسان ، الذي جعل الله حرمة دمه أعظم عنده من حرمة الكعبة المشرفة ، قدس أقداس المسلمين ، الإنسان الذي قال له ربه في كتابه المجيد "ولقد كرمنا بني آدم" ، ثورات العرب الجديدة ، كما تؤسس لمنظومة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة عادلة وكريمة ،فهي تؤسس أيضا لعقلية جديدة ووعي إنساني جديد وأخلاقيات إنسانية جديدة .

 

المصدر/ المصريون