الوعي الدّيني... والتّنمية
16 صفر 1433
محمد بن صالح الدحيم

ليس صحيحًا فصل الدّين عن الدّولة، وليس صحيحًا أيضًا تسلّط الدّولة على الدّين، ولن يعني ذلك استعلاء التديّن بأفراده ومؤسّساته على التّصحيح والمراجعة، والنّقد والمساءلة، ليس على سبيل التّصحيح المعلوماتيّ فقط، بل تصحيح الممارسة ونقد السّلوك.

وإذا كان التديّن الصّحيح لا يمثل عائقًا للحياة ونموّها في كل أبعادها وأدوارها ومستوياتها، كما هو في أصله ومصادره (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)، وفي الحديث «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، إذا كان هذا في أصله وصوابيّته، فإن أيّ ممارسة غير رشيدة تحت مسميّات فقهيّة أو احتسابيّة أو اكتفائيّة وانعزاليّة تغيب فيها المصالح الكبرى، وتختفي في حساباتها رؤية المآلات، يجب أن يكون في مقابلها تدابير واقية، ومعالجات نافعة ليس المنع والتّكميم إلاّ آخرها؛ إذ يسبق ذلك وأهمّ منه وأنجع على المدى القصير والبعيد، العناية والتّخطيط والتّركيز على محاور حياتيّة كبرى هي محلّ العناية المقاصديّة في خطاب الدّين واهتمامات الشّريعة، ويأتي في مقدمها:

أوّلاً: التّعليم، إذا كان الحديث هنا عن الوعي الدّيني؛ فالتّعليم يأتي في السّياق مقصودًا به التّعليم الدّيني، الذي يجب أن يكون منسجمًا مع أهداف التديّن الكبرى، نابعًا من مصادره الصّحيحة، قادرًا أولاً على تجاوز ما لحق الفهم الدّيني من مفاهيم خاطئة وسلوكيّات غالطة، أيًّا كان سببها مبرّرًا أو مُجرّمًا، ثم لديه القدرة ثانيًا على مواكبة المصلحة التي تفرضها طبيعة العصر وتحوّلات المرحلة، بروح المبادرة وقوّة العزيمة.

هذا الخطاب الدّيني التّنمويّ في التّربية والتّعليم يجب أن يشكّل منظومة متكاملة في حقول الدّراسة بمراحلها، وفي خطاب الجمعة والجامع، وفي برامج الإعلام الدّينيّ، ولا بديل عن عقل المنظومة إلاّ فوضى المعرفة التي تنتج مركبات الازدواج والتّناقض، والعداوة والبغضاء والتّناحر، وتهدّد التّنمية وتقوّض الحضارة.

المحور الحياتيّ الثّاني في الوعي الدّيني هو: رفع المستوى المعيشي؛ إذ يتشكّل الوعي الصّحيح في فهم الحياة الدّنيا على أنّها مزرعة أعمال صالحة، وبمفهوم أوسع للعمل الصّالح ومدلولاته.

لقد جاء التّعبير النّبويّ الوصفيّ للدّنيا بروعة البيان؛ إذ يقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذه الدّنيا حلوة خضرة، وإنّ الله مستخلفكم فيها» رواه مسلم. هذه النّظرة الإيجابيّة في الخطاب النّبويّ جعلت الإمام ابن تيميّة يضعف روايات لعن الدّنيا كحديث «الدّنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه»؛ إذ يقول ابن تيمية: «وكيف يصحّ أنّ الدّنيا ملعونة وليس من رزق ولا نعمة ينالها العبد إلاّ على ظهرها»، وقد قال الله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)، «وإنما يذمّ منها حرام من غير وجه...» الخ كلام ابن تيمية. ولما سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن الزّهد؟ قال: "الزّهد ترك الحرام".

هذا الوعي الدّيني يجعل للحياة معنى جميلاً يعود على نفسيّة المتديّن وسلوكه، ما يحمله على العمل وعمارة الوجود، واستثمار حياته بأفضل السّبل؛ فحياة لا تستثمر حياة عابثة (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً). بهذه النّظرة يكون الوعي الدّيني داعمًا للتّنمية الحياتيّة محقّقًا للاستقرار النفسيّ والاجتماعيّ؛ إذ تتحقّق المصلحة، وإذا ما تحقّقت المصلحة فثمّ شرع الله.

إنّ الوعي الدّيني يفتح المجال للمشاركة والمفاعلة، ولا يكتفي بخطابه لذاته ومع ذاته، فالمعرفة أفكار موزّعة، والعلوم تواصل ممتع، وفي النّاس خبرات تتكامل، وعطاءات تتناغم، وليس من مصلحة الدّينيّ أن يكتفي عن غيره، وليس من مصلحته أن يتزعّم وصاية على أحد، أو أن يقدّم حلولاً شعاراتيّة من نحو «الإسلام هو الحلّ»، وقد أمكن لهذا الشّعار أن يفتضح أمام وقائع كثيرة قُدّم فيها إسلام الفقيه، وإسلام الطّائفة، وإسلام القبيلة والمنطقة، أو إسلام الدّستور والمناسبة، ولم يكن ما يقدّم هو إسلام الله وإسلام الأنبياء والمرسلين!

إنّ الوعي الدّيني باحث عن الحقيقة، متعاون مع المصلحة، أيًّا كان مصدرها وحاملها.  وإذا كان التّحذير من وهم الاكتفاء موجّهًا هنا لحملة الخطاب الدّيني، فهو موجّه لغيرهم أيضًا ممن يقصون الخطاب الدّيني، ويسعون لتهميشه وتسطيحه، فالعدل أمر إلهيّ، وسلوك حضاريّ.

______________________

المصدر: موقع الإسلام اليوم