الفضائيات والحكومات.. كر وفر
16 صفر 1433
علا محمود سامي

على مدى أكثر من 15 عاما شهد الفضاء العربي زخما هائلا لقنوات تلفزيونية، كل أخذ مستقره في الفضاء، ووقت أن كانت هناك توقعات بأن ظهور مثل هذه الفضائيات سيكون بداية لتقليص قبضة الحكومات على الإعلام، وفتحها المجال أمام الحريات، إذا بقبضة الحكومات تتسع مع انتشار هذه القنوات، إلا أن كانت الثورات العربية، والتي لم تصل بعد إلى كنف مستقبلها الجديد، كونها لا تزال رهن المرحلة الانتقالية بكل تجلياتها.

 

غير أن مثل هذه القبضات الحكومية، وإن كانت متوحشة قبل الثورات، فإنه في خلال المرحلة الانتقالية تختلف بعض الشيء، في ظل حكومات مرتعشة، لا يزال منها أسيرا للأنظمة التي سقطت، وتتعرض لمؤامرات داخلية وخارجية، ليس ذلك نبعا من نظرية المؤامرة، ولكنه واقع يشهد المدقق للحالة العربية الراهنة.

 

وإذا كانت الحكومات في السابق تقدم دوما العصا على الجزرة، بفرض إملاءات، وإصدار توجيهات، وتحديد خطوط حمراء، إلا أن هذا التكميم انتقل إلى درجة أخرى، من خلال أساليب مبتكرة من جانب بقايا الأنظمة التي سقطت، والتي تسعى إلى زعزعة استقرار بلاد الثورات، بإثارة فزاعات، فضلا عن ممارسة أشكال أخرى من التقييد ليس فقط على الأرض، بل انتقل الأمر إلى الفضاء بحجب الصورة وإسكات الصوت في آن، وخاصة أن من يديرون الأقمار الصناعية لا يزالون بقايا لأنظمة سابقة، أو تابعين لأنظمة أخرى قائمة.

 

وبالتالي أصبحت هناك فضائيات أشبه بالفريسة واللقمة التي صارت تستسيغها أنظمة، ليست فقط سياسية، بعدما عانت الفضائيات في السابق ردحا من القمع وصل مداه بإخراس كل ما يمكن من شأنه التواصل مع المشاهدين، وإطلاق حق المعرفة لهم.

 

وعبر السنوات الأخيرة، وبالأخص في الشهور التي مضت كان هذا الإسكات واضحا، وكأنه الضجر الذي يصيب أنظمة باستمرار كلما حرصت مثل هذه الفضائيات أن تخرج إلى ما هو أبعد بنقل كل ما يدور على الأرض، والذي لا يعجب حكومات في كثير من الأحيان.

 

ليس المجال هنا بتقييم ما يتم بثه من محتوى، والذي قد يثير حنق السلطات، ولكن فيما صار إليه المواطن ذاته من وقوعه تحت رحمة المنع، كما هو حال فضائيات أصبحت عصية عما تريده لها الحكومات، وإن كان هذا حاصلا إبان الثورات العربية، فانه لايزال قائما، في ظل المراحل الانتقالية التي تعيشها الدول التي نجحت بها هذه الثورات.

 

اللافت أن المنع هنا لا يكون بسابق إنذار أو إثارة النقاش والجدل حول ما تثيره مثل هذه القنوات، ولكنه بضغطة بسيطة على زر في الأقمار الصناعية تقطع منه هذه الأقمار حق القنوات في التواصل مع مشاهديها، ومن ثم تقطع عنه حقه في المعرفة بكل ما تنقله الصورة، وينطق به الصوت.

 

ويبدو أن قطع إشارة البث هذه، قد أصبح آخر ما تلجأ إليه الأنظمة لمواجهة ما تراه من تجاوزات من جانب الفضائيات، بعدما مارست ضدها أشكالا عدة من القيود، وخاصة في العقد الأخير، وجميعها كانت تتخذ الشعار ذاته، حماية حق المشاهدين، والحفاظ على المعايير المهنية، وهى تبطن في داخلها ما لا تصرح به.

 

إلا أن هذا الحق أصبح رخيصا لدى الحكومات، بل يكاد يكون منعدما لديها، وصارت تتعامل معه كما تتعامل مع إهدارها لحقوق الإنسان بأشكالها المختلفة، ولذلك استصغرت حقه في أقل ما يمكن أن يتحصل عليه هذا المواطن، وهو حق المعرفة، والمتمثل هنا في المشاهدة، على نحو ما يستخدمه النظام السوري من محاولات لإسكات أي صوت يمكن أن يفضح جرائمه بحق شعبه الأعزل.

 

كافة المتتبعين للشأن الإعلامي ظنوا أن هذه آخر انتهاكات مثل هذه الأنظمة من أساليب للقمع والتكميم لأجهزة ووسائل الإعلام، إلا أن بدا لهم أن هناك من يحرص على ما هو أقصى لامعان التشويه وفرض التعتيم.

 

المزيد هنا ظهر في الشهور الأخيرة، وكان بالمنع أيضا، ولكن هذه المرة في الفضاء، بعدما فشلت الصيغ المختلفة، وظن البعض أن القمع بلغ منتهاه، وأن هذا التكميم لن يكون بعده تنكيل، وخاصة بعد إغلاق الاستوديوهات الفضائية، وتوقيف شبكات المراسلين، وإغلاق مكاتب البث، وقطع العلاقات السياسية بين الدول بسبب ما تبثه الفضائيات.

 

الكر والفر الدائم بين الحكومات والفضائيات، والذي وصل مداه إلى الفضاء، يطرح العديد من التداعيات السياسية والقانونية بين مثل هذه الفضائيات المحجوبة والأقمار الصناعية، وفي الحالتين استفادت الفضائيات.

 

وعلى سبيل المثال فبعد حالات التقييد ضد الفضائيات المطاردة، فإنها أثناء تغطياتها لثورات الشعوب والتي نجحت في إسقاط حكامها مقابل انتظار أخرى، تقوم مثل هذه الفضائيات سريعا بإعادة فتح مكاتبها المغلقة، ويصبح ما واجهته من سحب لبطاقات اعتماد شبكة مراسليها وتوقيفهم وإغلاق مكاتبها أثرا بعد عين، ليتحرك المراسلون بحرية أكثر، فضلا عن الثقة التي يمكن أن يكونوا قد حازوها لدى المشاهدين، بأن مثل هذه الفضائيات لاتركن إلى الضغوط، وتغلب حق المعرفة للجمهور على ما سواه، أيا كانت تفاصيلها، والخلاف حولها، وهو الأمر الذي تحقق في بعض البلدان العربية التي قامت فيها الثورات.

 

هذا يؤكد على أن مثل هذه الحالات من المنع كثيرا ما تحظى بتعاطف المشاهدين، بل ويمنحهم الثقة فيما تمنعه عنهم حكوماتهم، فكما يقال "الممنوع مرغوب"، فضلا عما صار سائدا في عالمنا العربي بأن الخبر الذي تنفيه الحكومات هو عينه النبأ الصحيح، وأن ما تقوم به السلطات من إجراءات منع وتضييق يكسب الجمهور تعاطفا أكثر مع أمثال هؤلاء المطاردين.

 

هذا المكسب من التداعيات السياسية للفضائيات، ترافق معه إهدار القائمين على أمر الأقمار الصناعية للحقوق القانونية، وكأنه تعامل جديد ليس كرا وفرا هذه المرة، ولكنه بمثابة "عض الأصابع" بين كل طرف وآخر، ومن له أمد النفس الطويل للصبر على الإجراءات القانونية، والتي يعتبر الفصل فيها هو الاتحاد الدولي للاتصالات، والذي يمكنه فض المنازعات الفضائية، وما يمكن أن يترتب عليه من تجميد لعضوية الأقمار، بجانب عقوبات فيما يتعلق بمخالفة القواعد الإجرائية، التي يستعملها مكتب الاتصالات الراديوية في تطبيق أحكام لوائح الراديو وتسجيل تخصيصات التردد المقدمة من الدول الأعضاء.

 

إلا أنه ومع اتباع سياسة النفس الطويل بين الطرفين، سرعان ما تصل الفضائيات المطاردة إلى تحقيق مكاسب تشبه الأخرى السياسية التي تحققها، بعد سقوط السلطات والأنظمة، لتعود سريعا إلى مشاهديها، لتنتصر إرادة المعرفة على سلطة القمع والمنع.