أفغانستان.. وبداية النهاية للعصر الجليدي
14 ربيع الأول 1433
عبد الباقي خليفة

انتهاء العصرالجليدي، لا يعني بداية ذوبان القطب المتجمد، وانسياحه في البحر بسبب الظروف المناخية ( ارتفاع درجة حرارة الأرض ، التلوث الصناعي، ثقب الأوزون....) فحسب. ولا يعني بداية نهاية سيطرة وهيمنة القادمين من بلاد الجليد والصقيع على دول الجنوب بسبب روح التحررمن التسلط الغربي التي تنتشر في العالم.. تزامنا مع الأزمة الإقتصادية وازدياد المطالب الإجتماعية، وتراجع مستوى الرفاهية في الغرب.. إلى جانب الإنكسارات العسكرية في أفغانستان فقط.

 

وبالتالي فإن ما نعنيه بإنتهاء العصر الجليدي، هو كناية عن بداية انتهاء دورة حضارية، لتحل مكانها دورة حضارية جديدة مختلفة السمات، والخلفيات والتوجهات. تساهم التغيرات المناخية،( من خصب وقحط ) والتحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية ( من تمدد وانكماش) في تشكيلها.

 ولا نغفل دورالحروب التي مثلت على مدى التاريخ أكبر ميكانزمات التغيرات الكبرى التي عرفها العالم.
فاكتشاف أمريكا أعقبه، غزو عسكري وحشي، وكذلك فعلت بريطانيا في استراليا، وشبه القارة الهندية وغيرها وفرنسا في الجزائر، والمغرب الكبير وغيره، وتكررت نفس المذابح لا سيما في آسيا وافريقيا على يد نفس الوحوش التي زعمت لنفسها المدنية لأنها تمكنت من وسائل الدمار والإبادة وأخضعت بها ضحاياها، تحت مقولة، الوحش من ليس بوحش.
ولم يكن الأمر كذلك على الحقيقة، لأن ذلك يقلب المفاهيم رأسا على عقب، كالقول، الظالم من ليس بظالم، والسارق من ليس بسارق، وهكذا.

 

 تغيرالمعادلة : على إثر الحرب العالمية الثانية، وتحديدا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تغيرت المعادلة، وأصبح الضحايا قادرين على هزيمة الوحوش، وأدى ازدياد الوعي لدى الشعوب بمعنى الوطنية، ومعنى التحرر، والاستقلال عن الأجنبي ، والعزة والكرامة الإنسانية، إلى تأجج روح التضحية وتحررالإرادة، فكانت ملحمة الجزائر، بلد عبدالقادر الجزائري، بلد المليون شهيد، وكانت ليبيا عمر المختار، وكانت فيتنام، ودول أمريكا اللاتينية، وكان في كل بلد علم يقود المقاومة، فكان عز الدين القسام في فلسطين، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعبدالعزيز الثعالبي في تونس.

وخلاف الدول الأخرى التي قاد ثوراتها أحرار من تيارات مختلفة، فإن المقاومة وحروب التحرير في بلاد المسلمين لم ينهض بها ويقودها باستبسال خالد، سوى أهل الدين. 
بيد أن الدول التي ناضل وقاتل أحرارها من أجل الإستقلال الحقيقي، والإستجابة لسؤال النهضة ومطلبها، سرعان ما سقطت في احتلال غير مباشر رهن إرادتها وقرارها السياسي، قبل ثرواتها ومصير شعوبها في يد المحتل الذي خرجت جيوشه لتحل مكانها جيوش من السياسيين والاعلاميين المحليين المتأثرين بثقافته، والمطبعين مع هيمنته على مقدرات شعوبهم، سواء كعملاء مأجورين، أوكأغبياء مغفلين، وغالبا ما كان الأمران، العمالة المقترنة بالغباء أوالتغابي. بل حتى التذاكي المقترن بحب النفس والفردانية على حساب الشعب والأمة ومستقبلها. 

استمرهذا الوضع عدة عقود، وما إن بدت العشرية الثانية من القرن 21 الميلادي، ال15 الهجري حتى انتفضت الشعوب العربية، في تونس، ومصر، وليبيا، ولحقت بها اليمن، وسوريا، والبقية تأتي.....
ولم تكن أفغانستان بعيدة عن هذا الحراك، ولم تكن الشيشان، وتركستان، والبوسنة، بعيدة عن هذا التحول، ولم تكن فلسطين بعيدة عن هذا التغيير، إنها الشرايين التي تتغذى منها ردود أفعال الأمة .إنها أشبه ما تكون بمسارب المياه الجوفية التي تتجمع في شكل مائدة مائية،( تذكروا مشروع تجفيف الينابيع في تونس ) هي أعماق هذه الأمة وحياتها، وإن اكتفى البعض ( العتب على النظرة ) بالمسببات السطحية التي تبدو في شكل قضايا اجتماعية واقتصادية وحريات عامة وما شابه .
وإذا استعرنا مفاهيم علم النفس، فإن هذه القضايا، تمثل، اللاشعورالحضاري، المحرك للفعل الإنساني داخل الأمة.

 

 دورالجهاد الافغاني: ولنعد قليلا إلى فترة الجهاد الأفغاني ضد الروس في ثمانينات وبداية تسعينات القرن العشرين، إذ ما لبث انتصار الأفغان أن تحول إلى حركة، نزعة الحرية لدى مسلمي البوسنة ( انتخابات 1990 وحرب الدفاع من أجل الحياة في وجه الإبادة 1992/ 1995 ) حيث ساهم الجهاد الأفغاني في إعادة الثقة لدى قطاعات واسعة من مناضلي الأمة، وتحول البوسنوي في عهد علي عزت بيجوفيتش، من شخص يهاجر إذا شعر بالخطر، إلى مقاوم من أجل البقاء. وأعاد الجهاد الأفغاني الأمل في تحرير فلسطين، وشهدنا ميلاد حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
ويتحول طيار في صلب القوة الجوية الروسية إلى مجاهد من أجل تحرير الشيشان، جوهر دوداييف، رحمه الله .
 ونشهد بداية تحركات في ما كان يسمى بجمهوريات الإتحاد السوفياتي، تم تطويقها باعلان استقلال هذه الجمهوريات في تسعينات القرن الماضي، ولكن النار لا تزال تحت الرماد، وستشهد جمهوريات البلطيق، والقوقاز، وآسيا الوسطى ثوراتها على غرار الربيع العربي، في قادم الأيام .

لم تكن تلك التغيرات التي ذكرناها آنفا، بعيدة عن الهامات الجهاد الأفغاني، سواء ضد الروس، أوضد العدوان الغربي بقيادة أمريكا وأزلامها منذ ما يزيد عن 10 سنوات.
 وإذا كان بعض الخصوم قد اعتبر جهاد الأفغان ضد الروس حربا بالوكالة، أوحرب أمريكا ضد الروس( يا لخيبة التحليل) رغم استفادة الغرب من سقوط الإتحاد السوفياتي، فإنهم بقوا مشدوهين من صمود الأفغان لأكثر من 10 سنوات ضد حلف شمال الأطلسي، وقوات من أكثر من 40 دولة. ليس ذلك فحسب، بل في ظل وجود طابور خامس( تحالف الشمال، والقوات النظامية ) يجيد حرب الجبال، ويعرف طبيعة الأرض وكان ولا يزال يوضع كدروع بشرية في مقدمة الصفوف أثناء القتال. 
في أفغانستان، أعلن عن سقوط العصر الجليدي مرتين، عند طرد الروس، وعند فشل أمريكا وحلف شمال الأطلسي، وتوابعها من سقط القبائل العربية، في إنهاء طالبان.
 وهاهم اليوم يسعون بكل ما أوتوا من مكروحيلة، لجر طالبان إلى مفاوضات يخرجون خلالها أو بعدها من أفغانستان، بما يحفظ ماء وجوههم، على إثر خسائر بشرية ومادية وفضائع على مستوى القيم الانسانية التي طالما تغنوا بها وزعموا تبنيها والدفاع عنها وابتزوا دولا كثيرة بشعاراتها .

لا يجب أن ننظر لأحداث العالم، في إطار مساحتها الجغرافية، ولا توقيتها الزمني، ولكن من خلال انعكاساتها على مساحات أكبر وأطوار زمنية أبعد. ومن هذا المنظار فقط يمكننا أن نرى مساهمة الجهاد الأفغاني في عمليات التغيير التي تشهدها الأمة.
 حتى اللباس الأفغاني، واللحية الأفغانية، والتشادر الأفغاني، كان لهم تأثيراتهم العميقة عما يعتمل داخل الأمة، وتحول في الكثير من الأحيان إلى ظواهر اجتماعية وثقافية وغيرها.. ومن المفارقات، أن ينفي البعض ذلك، في الوقت الذي يطلق فيه على ظواهر بل واقع بعض الجماعات اسم" طالبان...." .

 

انعكاس ما جرى ويجري في أفغانستان، لا يمكن تحديده من خلال المحاكاة المظهرية والسلوكية، فذلك ليس سوى تعبير عن التأثر السطحي، وبتعبير أدق التأثر الخارجي، أوالمظهري، ولكن الانعكاس الحقيقي والفاعل هوما لامس العقل أولا، والوجدان ثانيا.
 أمل جديد : صحيح أن التصرف عنوان التصور، ولكن ليس كل تصور يعبر عنه بتصرف مظهري. إذ أن طريقة التصرف العقلي والمفاهيمي، قد تكون أعمق من الأشكال، بما فيها المحمودة وفق التصور ذاته.
من هنا يمكننا فهم سعي البعض لمحاربة المظاهرالسلوكية في اللباس واللحية ( أساسا ) التي تذكر بالجهاد الأفغاني، وفي العموم، دون إدراك للواقح الأحداث وتأثيراتها على العقول. ومن ثم تخبط ( المحللين ) في تفسير الظواهر، وعزوها لوسائل محدودة، فما يؤثر في الانسان هي الوقائع وليس الكلام المجرد، (ولا التوظيف) ولا الصورة التي يراهن البعض من خلالها ( مخطئا) على غباء المتفرجين.
ويمكننا اختصار دور الجهاد الأفغاني، في إنهاء العصر الجليدي في العالم في نقاط .

أولا: انهاء الامبراطورية الروسية، التي كانت تسمى زورا ب" الاتحاد السوفياتي". ولولا اكتشافات النفط والغاز، لانهارت روسيا نفسها. ولتمكنت جمهوريات مسلمة وأخرى نصرانية من اعلان استقلالها عن روسيا، التي لم تكن في التاريخ سوى إمارة صغيرة هي موسكو. ولكن ذلك ليس سوى لمرحلة لن تستمر طويلا. 

ثانيا: أعاد الجهاد الأفغاني الأمل للأمة بإمكانية النصرالعسكري، بعد هزائم متتالية قاد فيها الأمة خونة علمانيين أو بتعبير البعض ( عملاء نيين) . ساهموا تاريخيا كل من موقعه وحقبته في تكريس الهزيمة والدونية داخل الامة . فكان رد الأمة ، ظهور حماس والجهاد الاسلامي، وغيرها من الحركات الجهادية في العالم الإسلامي، وهي من إلهامات الجهاد الأفغاني.

ثالثا: عرفت الأمة بعد انطلاق الجهاد الأفغاني انتعاشة واستفاقة دينية كانت بادية الوضوح في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وعرفت بعض دول القوقاز حركات جهادية، كالشيشان، وطاجيكستان، وأزبكستان وغيرها.
رابعا: أعطى الجهاد الأفغاني زخما ثوريا للمطالب الشعبية، التي ترجمت إلى ثورات، وهذا لا يمكن إدراكه سوى من خلال تتبع ما هو مخزون في اللاشعور. ولا ننفي تداخل التأثيرات الأخرى في هذا الخصوص، سواء ثورات شعوب أوربا الشرقية، وحرب الإبادة في البوسنة، وبالأخص استمرار احتلال فلسطين، ولذلك كان من شعارات الثورة العربية" الشعب يريد تحرير فلسطين". 

لقد كان من إفرازات الثورة العربية التي نرجو لها النجاح والإنتشار في العالم، تحررالقرار السياسي، والذي نراهن عليه لتحرير فلسطين، وتحرير لقمة عيش المسلمين ، وتحقيق الأمن الغذائي لأمتنا.
 وتحقيق الأمن التعليمي بتطهير المناهج، من نصوص العداء للهوية، وتمجيد الآخر على حساب الذات. وتحقيق وحدة الأمة.
وامتلاك ناصية العلم الشرعي، وتحقيق التقدم التكنولوجي والالكتروني، والمساهمة في نشر السلم بالعالم.
إن ذلك سيساهم إلى جانب عوامل أخرى في إنهاء العصرالجليدي، الذي جعل العالم يطوف حول قطبيته . وجعل من أمم العالم وفي مقدمتها الأمة الإسلامية أجراما بدون وزن تدور تائهة في فلكه.