11 جمادى الثانية 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لدي شكوى وسؤال في آن واحد؛ أنا ابنة، لي أب يحب النساء بشدة، لدرجة لا تتخيلها، ومن كثرة عشقه للنساء أصبحنا نمشي بين الناس من حيائنا بسبب أفعال أبينا، وليس الأمر متوقفاً على ذلك فقط، بل لا يصرف ولا يعدل بين نسائه، وفي آخر مرة تم ضبطه مع إحدى النساء في السيارة، وكانت قضية ورواية، وأنا الآن أكره أبي، وأي تصرف منه لا أحتمله.
مثلاً عندما يخاصمني على شيء أو أكون متضايقة من تصرفه أحتقره مباشرة، وأبدأ بالصراخ عليه، وأمي تقول لي: اعتذري هذا أبوكِ، مهما عمل، اﻷبناء ما يحاسبون الآباء؛ فلماذا هو أخطأ في حقي، وفضحنا أمام الناس؟!، لانه يعشق النساء وغير عادل؛ فلولا الله ثم أمي لكان حالنا يرثى له.
فلو ما كنت موظفة ماذا كان حالنا؟!، وأنا إنسانه ما أتحمل أي ردة فعل منه، بسبب حركاته، أريد أعاقبه وأمي تقول الأبناء ما يعاقبون الآباء، إلى متى أصبر؟، أريد حقي منه، لأنه مهما أعطيناه من فرص لن يتغير، وأنا نفسيتي تعبت، ما أقدر أتحمل. أتمنى النصيحة والرشد.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أختنا الفضلى:
السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكِ، وشكر الله لكِ ثقتكِ بإخوانك في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، وأن يجعل في كلامنا الأثر، وأن يتقبل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها لمخلوق حظًا،...آمين.. ثم أما بعد:
لقد قرأت رسالتك أكثر من مرة، وأدرك أبعاد المشكلة، وحجم المعاناة النفسية التي تعانين منها، فلا شك أن أكثر ما يجرح الأبناء، ويدمي قلوبهم، سقوط القدوات، وخاصة الآباء والأمهات، من المكانة العالية التي يرونهم فيها، والدرجة الرفيعة التي يضعونهم فيها، فعندما يكتشف الأبناء أن آباءهم ليسوا جديرين بهذا الثقة العالية، ووليسوا أهلا لأن يكونوا نموذجًا يحتذى.
وإذا كان العلماء والشيوخ والدعاة يحدثوننا ليل نهار عن خطورة "عقوق الأبناء للآباء"، وهو بلا شك أمر خطير جلل، حذر منه القرآن الكريم أيما تحذير، فقال جل شأنه (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء/ 23-24]. وفي الصحيحين أن رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قال: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا؟، قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ".
فإنني أؤكد أن هناك من الآباء من يستحق لقب "الأب العاق"، وإنك لتجد من بين هؤلاء من هم أكثر عقوقًا لأبنائهم. يروى أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه)، يشكو إليه عقوق ولده، فأحضر عمرُ هذا الولد، وأنَّبه على عقوقه لأبيه، فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أعلم أن لأبي علي حقوق، أفليس للولد حقوقٌ على أبيه؟، قال: بلى، له عليه ثلاث، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟، قال: أن ينتقي أمه، وأن يحسن اسمه، وأن يعلِّمه شيئًا من القرآن، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، إنه لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجيةٌ كانت لمجوسي، وقد سماني جُعْلاً (أي خنفساء) فكان الناس يسخرون من اسمي، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً. فالتفت أميرُ المؤمنين إلى الرجل، وقال له: أجئت تشكو عقوق ابنك؟ لقد عققته قبل أن يعقَّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.
ابنتي الحائرة:
قبل أن أدلف إلى الإجابة على سؤالك، وبعد هذه المقدمة التي تحدثنا فيها عن "الأب العاق"، ورغم تقديري لحالتك النفسية، وللظرف الصعب الذي تمرين به، اسمحي لي أن أعاتبك على بعض الألفاظ التي سقطت منك في رسالتك، مثل قولك عن أبيك "أكره أبي"، "أي تصرف منه لا أحتمله"، "احتقره"، "أبدأ بالصراخ عليه"، "فضحنا قدام اللي يسوى واللي ما يسوى"، "نسوانجي وغير عادل"، "ما اتحمل أي ردة فعل منه"، "أبغى أعاقبه".
فما كان ينبغي أن تخرج منك هذه العبارات في وصف أبيك، مهما ارتكب من جرم، ألم تتدبري قوله تعالى في محكم التنزيل: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا...) [لقمان- 15]. وأطلب منك أن تكثري من الاستغفار، وأن تكفي عن النطق بهذه الكلمات، لعل الله يتوب عليكِ، ويغفرها لكِ.
ابنتي المسلمة:
استأذنك أن ألخص لك ردي على استشارتك في النقاط التالية:
1) ديننا الإسلامي الحنيف هو دين العفة والطهارة، حرم الزنا، فقال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) [الإسراء- 32]. وغلظ عقوبة من يقترفها فقال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور- 2]. ورسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، أمرنا بسد الطرق والأبواب الثلاثة، المؤدية إلى ارتكاب هذه الجريمة النكراء، ألا وهي: (النظرة/ الخلوة/ اللمسة).
2) لاشك أن ما جاء في رسالتك من تصرفات وسلوكيات الأب مع النساء يدينه إدانة بالغة، ويجعله مسيئًا في حق ربه، ونفسه، وزوجه، وأولاده، وأهله أجمعين، وهو ما بدا واضحًا من قولك في رسالتك: "يحب النساء بشدة، لدرجة لا تتخيلها"، "نمشي بين الناس من حيائنا بسبب أفعال أبينا"، "لا يعدل بين نسائه"، "تم ضبطه مع إحدى النساء في السيارة"... إلخ.
3) مهما حدث من الوالدين، فإنه لا ينبغي للولد (ابنًا كان أم بنتًا) أن يسيئ إليهما، أو أن يصرح بكراهيته لهما، أو أن يعلن أنه يحتقرهما، أو أن يصرخ في وجههما، ...إلخ، وذلك لأمرين: أولهما النهي الشرعي الصريح عن ذلك، وثانيهما حتى لا تتقطع أواصر الصلة بينهما وهو ما يقضي على فرص الإصلاح والدعوة والتقويم، الذي يحتاج إلى إظهار المحبة والتزام الأدب معهما.
4) ائذني لي أن أحيي والدتك الكريمة، فهي سيدة فضلى، حريصة على عدم تقطيع أواصر الود بينكِ وبين أبيك، رغم أنها الأكثر ألمًا وتضررًا مما يحدث منه، وقد أسعدتني كثيرًا عباراتها التي جاءت على لسانك في رسالتك، مثل قولها لكِ: "اعتذري هذا أبوكِ"، "مهما عمل، اﻷبناء ما يحاسبون الآباء"، "الأبناء ما يعاقبون الآباء"،...إلخ، فأكرم بها من أم، وجزاها اللهُ خيرًا، وأصلح لها زوجها.
5) أنصحك بمعالجة الأمر على هذا النحو:
• الجئي إلى الله عز وجل، واستعيني به، واستعيذي بالله من الشيطان الرجيم.
• وتوجهي إلى الله بالدعاء أن يهدي اللهُ حاله، ويصلحُ بالَه.
• أكثري من الاستغفار، والتوبة النصوح، لعل الله يغفر لك ما سقط منكِ من ألفاظ وعبارات في حق والدك.
• اعقدي العزم على تغيير أسلوبك معه، ابدئي معه صفحة جديدة، ملؤها المحبة والصداقة والاحترام والتقدير.
• اجلسي معه جلسة مودة، ولا تعاتبينه على ما مضى، تحدثي معه كأخت وصديقة وحبيبه، أليس هو والدك، وأقرب الناس إليك.
• يمكنك الاستعانة بأحد الصالحين من أفراد العائلة، شريطة أن يكون ممن يحبهم الوالد، وأن يكون من الحكماء العقلاء، المشهود لهم بالحصافة والفطنة، صارحيه بالأمر، واطلبي منه المساعدة والدعم.
• ضعي برنامجًا لإصلاح والدك، يمتد زمنيًا لشهر كامل، على أن يحتوي على: الصلاة معًا في البيت (في المرحلة الأولى)، والمحافظة على ورد يومي من القرآن (جزءًا/ حزبًا/ ربعًا)، وجلسة خفيفة (15 دقيقة) للذكر والاستغفار، الخروج للتريض معًا، عمل بعض الزيارات للأقارب والأرحام (من يحبهم فقط في البداية)، مع زيارة مريض كل أسبوع، وزيارة للقبور (مرة او مرتين في الشهر)، ...إلخ.
• تعاملي معه على انه مريض يحتاج للعلاج، ثم الاستشفاء، فاصبري معه واصبري عليه.
• لا تسمحي لليأس أن يتسرب إليك، ولا للشيطان ان ينتصر عليكِ. صممي على النجاح في مهمتك، مهما كانت العقبات.
• قد يكون من الأفضل أن تشركي باقي أخواتك وإخوتك ووالدتك معكما في هذا البرنامج الإصلاحي، شريطة أن يتفهموا جيدًا طبيعة المهمة، ويقدروا مدى صعوبتها، ويصروا معكِ على مساعدته على التخلص من هذه الأدران والأوباء التي سيطرت عليه، وأن يكونوا لكِ عونًا.
وختامًا؛
فإن ما سبق لا يعدو أن يكون تشخيصًا للداء، ووصفًا للدواء، وعلى الله وحده الشفاء، وبه سبحانه الأمل والرجاء، نسأل الله تعالى أن يوفقكِ في مهتمكِ، وأن يجعلك سببًا في هدايته، وأن يعينكِ بمدد من عنده، وأن يرده إلى صوابه ورشده ودينه ردًا جميلا، وأن يصرف عنه معصيته، وأن يرزقه رضاه والجنة، وأن يعيذه من سخطه والنار، وأن يهدينا وإياه إلى الخير، وأن يصرف عنا وعنه شياطين الإنس والجن، إنه سبحانه خير مأمول وأفضل مسئول.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.