زيارة زعيم حركة النهضة إلى فرنسا.. من التوجس إلى الشراكة
5 رمضان 1435
عبد الباقي خليفة

جاءت زيارة الغنوشي لفرنسا في فترة زمنية حبلى بالتطورات وطينا وإقليميا ودوليا وفي مرحلة تاريخية استثنائية، وقبل أشهر قليلة من موعد 26 أكتوبر المقبل (أي موعد إجراء الانتخابات القادمة بنسختيها التشريعية والتنفيذية)، فما هي أسرار هذه الزيارة وخلفياتها وأبعادها؟، وما هي نتائجها و المآلات وانعكاساتها على مستقبل المشهد السياسي التونسي؟ وهل ستتغير نظرة فرنسا للنهضة و للتيار الإسلامي في تونس بعدما طغت الريبة والحذر على العلاقة بين الطرفين منذ سبعينات القرن الماضي

 

ترتيبات الزيارة، أسرارها و خلفياتها وتفاصيل المحادثات
لا خلاف في أن زيارة رئيس حركة النهضة سبقتها ترتيبات سياسية هامة وغير مسبوقة وهو ما يفسر تصريح السفير قبل الزيارة بأيّام بأن الغنوشي مُرحّب به، وأنه سيلتقي كبار المسؤولين الفرنسيين، و لم تخلُ الزيارة طبعا مما سماه البعض بالشروط الباريسية والتي أكدت مصادر إعلامية أنها تخص مرحلة ما بعد الانتخابات والتي لخصها أحد المواقع المختصة بــــ”عدم المساس بمصالح فرنسا الإستراتيجية في تونس في حال فوز النهضة في الانتخابات القادمة

 

ومن أبرز المطالب الفرنسية المقدمة وفقا لتأكيدات مصادر متطابقة هي أن تظل فرنسا الشريك الاقتصادي الأول ( تقريبا أكثر من 70 في المائة من مبادلات تونس التجارية منذ سنوات بل عقود…)، كما دار النقاش حول أهمية تأكيد مواقف النهضة السابقة والموسومة بالواضحة من طرف المراقبين و هي المواقف التي أكدت على حق العلمانيين في إدارة شؤون البلاد بل والشراكة معهم، وهي المواقف التي تختلف فيها النهضة مع العديد من حركات الإسلام السياسي.

 

ووفقا لمصادر قريبة من الحركة، فقد أكد الغنوشي حرصه على رسم صورة "معتدلة" له ولحركته وأكد مواقفه السابقة بالقول مثلا أن "المحيط الجغرافي الطبيعي لتونس هو الفضاء المتوسطي وأن حركة النهضة حريصة على دعم تشبث تونس بهذا المحيط بما في ذلك الحفاظ على اللغة الفرنسية كثاني لغة معتمدة بالبلاد".

 

والملاحظ أن الخطاب الإعلامي للنهضة ( تصريحات القياديين و مقالات صحيفة الفجر وصفحات الحركة الرسمية على الشبكة الاجتماعية)، أكدت على الترحاب الذي لقيه الغنوشي في باريس، كما نوهت بعض الصفحات بـــــ"الواقعية السياسية" للغنوشي وبـ"أفكاره المعتدلة".

 

والحقيقة أن ما جرى في الكواليس، أكثر ما تم التلميح أو التصريح به، حيث غيّر الفرنسيون رأيهم (بدرجة قاربت الـــ 180 درجة)، ولم يعد الغنوشي كما كان يُصوّر، حيث استطاع إقناع محاوريه ومضيفيه الفرنسيين بأنه معتدل وقادر على إبرام تحالفات إستراتيجية مع أحزاب علمانية بل ومع بلدان غربية وفي مقدمتها فرنسا بالأساس.
وبالفعل فقد حرص الرجل على تكرار سيناريو زيارته إلى أمريكا قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 حيث قدم نفسه يومها في واشنطن ( واليوم في باريس ) أنه "صديق للغرب" وأنه يقود حركة إسلامية معتدلة تؤمن بأنه ليس هناك تعارض بين الإسلام والديمقراطية.

 

وعلى عكس رأي بعض المراقبين، فإن زيارة الرجل كانت ناجحة ويظهر أن كلا الطرفين قد سعى إليها ورتب إليها ترتيبا كبيرا وناجحا مع تكتم الطرفين على التفاصيل وتعويم طبيعة الزيارة، لكن باريس بدت وكأنها تستقبل أحد حلفائها (مثلما هو شأن الأحزاب الليبرالية والعلمانية التي طالما لقيت الدعم الكبير وحتى اللوجستي بل أن حزب حركة نداء تونس و زعيمه الباجي قائد السبسي لم يلقيا هذا الترحاب من قبل.
وهنا يتبين أن النهضة تريد أن ترفع الغبار عن نفسها وإبعاد صورة أنها ربما باتت معزولة سياسيا (وهو ما تفسره أيضا مُبادرتها حول رئيس توافقي والتي دلت أيضا أنها موغلة في البراغماتية)، خاصة و أن زعيم النهضة تقوده عُقدة مواجهتي 87 و 91 الخوف من مصير جماعة الإخوان في مصر

 

والأكيد أن كل المحادثات واللقاءات التي أجراها الرجل ( والذي يُوصف في فرنسا بحاكم تونس الفعلي)، تعكس رغبته في تأمين دعم باريس لحركته، أو على الأقل ألا يكون دعمها للآخرين على حساب حركته خاصة وأن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية وتشريعية في ظل مناخ متوتر إقليميا، إضافة إلى استياء حتى أنصارها من أداء الترويكا خلال سنتين من حكمها، بل من الحكومات المتعاقبة بعد الثورة أيضا بما في ذلك حكومة مهدي جمعة التكنوقراطية
وهو ما يفسر محاولة الغنوشي خلال لقاءاته مع المسؤولين الفرنسيين وخلال المؤتمرات الصحفية التي عقدها وكذلك خلال المحاضرة التي ألقاها على منبر الأكاديمية الدبلوماسية الدولية، أن يُقنع الفرنسيين وكل الغرب، بأن حركة النهضة تُؤمن بالتعايش مع العلمانيين على خلاف بعض الإسلاميين في بلدان أخرى
ويبدو أن الزيارة خيمت عليها الأحداث في الشرق الأوسط وتقلبات المحاور الإقليمية (زيارة خادم الحرمين الشريفين إلى المغرب ومصر ولقائه عبدالفتاح السيسي في الطائرة ، ثم زيارة السيسي للجزائر – إضافة لما يحدث في سوريا والعراق وليبيا.
وبحسب مصادر جديرة بالثقة وحسب التسريبات بددت بعض شكوك باريس نحو حركة النهضة و ساعدت الفرنسيين على التعرف أكثر وعن قرب على الغنوشي ، وأن دوائر القرار لفرنسية النافدة راهنت على الدفع بالغنوشي إلى الأمام، والقطع مع سياسة الفرنسية القديمة القائمة على الحذر من كل الإسلاميين.

 

الترويج للنموذج التونسي
استغل زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي زيارته ، للترويج للنموذج التونسي، في ظل تجربة الانتقال الديمقراطي حيث دافع في محاضرة ألقاها الجمعة 19 جوان 2014، في ،الأكاديمية الدولية للدبلوماسية، حضرها دبلوماسيون ومختصون في السياسة الخارجية، عن خيار التوافق الذي اعتمدته تونس في مسارها الانتقالي، معتبراً أنه “جنّبها الهزّات التي تعاني منها دول عربية أخرى تعيش تجربة الانتقال الديمقراطي.
وقال الغنوشي إن توافق القوى السياسية على تنظيم الانتخابات التشريعية قبل الرئاسية، توّج المسار الانتقالي وأنهى المرحلة الانتقالية.
كما أشاد بدور النخبة التونسية في تجنيب البلاد مخاطر الاقتتال، منوّهاً بنجاحها في بناء مفهوم التوافق. وشدّد على عمق العلاقات التونسية الفرنسية في كل المجالات، مطالباً فرنسا بأن تحافظ على دعمها للتجربة الديمقراطية في تونس، وفي هذا الإطار التقى الغنوشي مجموعة من الشخصيات الفرنسية التي ساندت القوى الديمقراطية والإسلاميين خلال حكم الرئيس المخلوع ودعاها إلى مواصلة دعمها للتجربة التونسية التي أكدت أن "الإسلاميين قادرون على الحكم ومستعدون للمشاركة في الحياة السياسية وأنه لا تعارض بين الديمقراطية والإسلام"، على حدّ قوله، مشيراً إلى "إصدار دستور توافقي حافظ على مكاسب الشعب التونسي". وفي السياق أكد "أهمية أن يلتزم المسلمون بقواعد الدولة التي يعيشون على أراضيها"

 

• لقاء أنصاره و الترويج للنهضة في أوساط المهاجرين
التقى الغنوشي خلال لزيارة وبعد يوم واحد من مقابلة نخبة النخبة الفرنسية بأنصاره في قصر المؤتمرات في مونتراي، حيث استعرض الخطوات التي قامت بها "النهضة" في الحكم وخارجه من أجل البحث عن التوافق لإنجاح المسار الانتقالي، و جدد لهم التأكيد على أن "الحركة تنازلت عن الحكم من أجل تونس وحتى لا ينتكس المسار الانتقالي".
وجاءت زيارة الغنوشي، أيضاً، للترويج لتجربة التحالف بين الإسلاميين والقوى الديمقراطية. فبالنسبة للإسلاميين، أصبحت تجربة التحالف مع قوى ديمقراطية وحتى دستورية، مطلباً لا بد منه ولا بديل منه
وهذا ما يبرّره تزامن هذه الزيارة مع زيارة يقوم بها رئيس "المجلس الوطني التأسيسي" مصطفى بن جعفر زعيم حزب "التكتل من أجل العمل والحريات"، لباريس. ويعتبر بن جعفر صديقاً لفرانسو هولاند وشخصاً مقرباً من من الحزب الاشتراكي الفرنسي.
ويبحث رئيس المجلس الوطني التأسيسي، في أن يكون هو "الرئيس التوافقي"، بعدما أعلنت حركة "النهضة" أنها لن تقدم مرشحاً للرئاسة، بل ستعمل على دفع الأحزاب السياسية لاختيار رئيس توافقي، تكريساً للوحدة الوطنية.

 

مآلات الزيارة:

 

بادئ ذي بدء أثارت الزيارة جدلا في الساحة السياسية و خاصة الدور"الدبلوماسي" الذي يلعبه الغنوشي في وقت لا يتقلد فيه أي منصب رسمي حسب رأي البعض، كما مثل حضور سفير تونس في فرنسا عادل الفقيه في أغلب اللقاءات (وهو المقرب من حزب التكتل) ، وهو ما أثار استغراب الكثيرين، بل أن بعضهم ذكر بعدم استقبال السفير سابقا لوزير الخارجية المنجي الحامدي عند وصوله إلى باريس منذ أشهر

 

وبالعودة إلى زيارة الغنوشي على المستوى الإعلامي، تمكن راشد الغنوشي من التميز لدى ظهوره على قناة فرنسا 24، بل أن القناة خصصت 18 دقيقة للحوار في سابقة قلما تقوم بها مع رئيس حزب، وحتى معه حيث كانت مداخلته لا تتجاوز الثلاث الدقائق

 

وبهذه الزيارة كسب الغنوشي كثيرا واستثمر ورقات عدة، بل وأعاد خلط الأوراق في الساحة السياسية، وهو ما بينته آخر استطلاعات الرأي الأربعاء الماضي، حيث صعدت النهضة لأول مرة للطليعة مع غريمها التقليدي نداء تونس والذي أربكته الزيارة وخلطت كل أوراقه في ظل ترتبات أزمته الداخلية وانفراط عقد جبهة "الإنقاذ" والتي ماتت سياسيا، كما انتهى أيضا تحالف "الاتحاد من أجل تونس" رغم إصرار حزب المسار على المضي فيه بعد انسحاب كل من "النداء" و"الجمهوري" منه، بينما لا يزال القوميين يبحثون عن التوحيد بين فصائلهم المتعددة مقبل تواصل أزمة اليسار المتخبط في أزمات التموقع والتوحد والخيارات الإستراتيجية البديلة

 

ومن جهة أخرى بينت الزيارة الرؤية الدبلوماسية للرجل وقدرته على الترتيب اللوجستي لموقع حركته مع شركائها المستقبليين، وهو ما يطرح سؤال هل هي الصدفة أن تطرح مبادرة النهضة عشية الزيارة؟ خاصة وان الزيارة تزامنت مع زيارة بن جعفر كما بينا أعلاه ، وانها – أي الزيارة – جاءت قبل المصادقة على تواريخ الانتخابات، وخاصة وأنها جاءت قبل أيام من انتخابات ليبيا وبالتوازي مع انتخابات موريتانيا وبعد أيام من تنصيب السيسي في مصر

 

أما في داخل النهضة فقد دفعت الزيارة إلى مزيد إبراز الوجوه السياسية المعتدلة والبراغماتية وتبني خيار الواقعية السياسية والقبول بخيارات التوافق والانفتاح والتواصل مع بقية الأحزاب والمكونات السياسية والاستفادة مما يحدث في بقية البلدان العربية