العثمانية.. العائدة بلغتها.. بقضها وقضيضها
8 ربيع الأول 1436
أمير سعيد

ككل النظم الديكتاتورية، كان منافقوها يلتقطون أي عبارة تافهة لـ"الزعيم" ليجعلوا منها "قولاً مأثوراً" تتلقفه وسائل الإعلام والدعاية للتدليل على أن "الزعيم الملهم" هو "صاحب رؤية وسعة أفق".

 

مصطفى كمال مجهول الأب، الذي منحوه لقب "أتاتورك"، أي أبي الترك، استعاضة عن هذا النقص الكبير في أهلية الانقلابي لتولي مهام رئيس تركيا.. كان من هؤلاء الذين أهيلت عليهم قداسة من لا شيء ومنحوا كاريزما وهمية مصطنعة لكي يتمكن من هدم جميع الثوابت والقيم مستفيدة من تلك الهالة التي أحيطت به، والتي ثبت مع زوال هذه التهويمات أنها ما كانت لتستقيم، وما كان التاريخ ليمنحها استمراراً مع زوال تأثير الدبابة التي حمتها، كلوحة مدينة بالك إسير التركية!

 

فللوحة المدينة هذه قصة طريفة، رواها الكاتب التركي أنجين أرديتش في مقال له بصحيفة الصباح التركية.. تقول القصة الحقيقية إن الكماليين أعضاء جمعية الاتحاد والترقي قد تعمدوا نشر عبارات أتاتورك في كل مكان إيهاماً بأهمية زائفة لها، منها لوحة وضعت على رصيف بمدينة بالك إسير، كتبت عليها عبارة أتاتورك الشهيرة "علينا ألا نقف حتى لا نسقط"، ومع تفاهتها جاء المطر فغير ملامحها وصيرها "علينا ألا نقف حتى لا نتبول على أنفسنا"! (بلدية العدالة والتنمية أزالتها ووضعت علماً بدلاً منها؛ فغضب العلمانيون، واعتبروها إهانة للوطن!).

 

جاء المطر ليطهر تركيا من هذا الرجس والإفك ومعاندة قيمها وهويتها الأصيلة؛ فلقد سارت تركيا في عهد الكمالية العلمانية ضد حركة حضارتها وتاريخها، وها هي تعود شيئاً فشيئاً إلى أصالتها؛ فتركيا بخلاف كثير من بلدان العالم الإسلامي قبل قرون كانت دولة عظمى بازغة باذخة إبان حكمها العثماني، لا تكاد تغيب عنها الشمس، وكان المنطق يقتضي ألا تدير ظهرها لماضيها إذا ما رغبت في تحديث ذاتها، لكن نظام أتاتورك العلماني أراد أن يتنكر لكل ماضي تركيا، ويغيب تاريخها عن أجيالها القادمة فاتخذ إجراءات تعسفية هوجاء لمحو ذاكرة الأتراك؛ فألغى لغتهم! ضمن منظومة استبدادية من القرارات والإجراءات الرامية لتغريب تركيا وتغييب حضارتها وقيمها وأمجادها.

 

استبدل أتاتورك اللغة التركية باللغة العثمانية التي كانت تكتب بحروف عربية، وعمد إلى تجريدها من المتشابه بينها وبين العربية إمعاناً في إبعاد المسلمين الأتراك عن لغة قرآنهم، فبمساندة الدبابة التي أتت به للحكم سار بتركيا ضد حركة التاريخ، وخلفه آخرون أمسكوا بتلابيب السلطة لقرن كامل من الزمان حتى قيض الله لتركيا من يعيدها رويداً رويداً لهويتها وقيمها.

 

كانت تركيا على موعد قبل أيام مع واحدة من أهم الإجراءات التي ترنو إلى إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، وإلى تصالحها مع ماضيها؛ فبصدور توصية من الهيئة العامة لمجلس شورى التربية الوطنية في تركيا بإدراج اللغة العثمانية كمادة في المناهج الدراسية الرسمية، بات بإمكان وزارة التربية الوطنية، إعداد مشروع قانون يقدم أمام البرلمان، ليجري البدء بتدريس مادة اللغة العثمانية بعد صدور القانون.

 

الخطوة كانت مفاجئة، ولها دلالة كبيرة جداً؛ إذ بدا أن حكومة الرئيس أردوغان ستمضي قدماً في تفتيت بنى النظام الأتاتوركي العلماني، غير مبالية بكل معارضة لا تستند إلى ركن ركين، أذهلتها المفاجأة "العثمانية" فتخبطت في مواقفها وتصريحاتها حيال القفزة الجديدة التي أربكت بقايا يهود الدونمة والطائفة العلوية وأساطين العلمانية؛ فأخذوا ينتقدون ما اعتبروها خطوة لا فائدة منها، كان من الأجدر أن يحل تدريس علوم جديدة مكانها! لكن كانت منظومة العدالة والتنمية جاهزة للمعركة قبل بدايتها؛ فشرع الرئيس التركي بنفسه في تأكيد أهميتها، بل وضرورتها بعبارات قوية رصينة وموجزة كتلك:

 

"بسلبكم اللغة من مجتمع ما، تكونون قد سلبتوه حضارته وذاكرته. أقول هذا باعتبارنا أمة دفعت الثمن غالياً لسلبنا لغتنا. فالإعتداء على لغة مجتمع ما، يعني الإعتداء على دين هذا المجتمع وثقافته وفنونه وأدابه".

 

"هل هناك أمة في العالم لا تستطيع قراءة الكتابات التي بنيت عليها حضارتها كأمتنا؟ هل هناك أمة لا تستطيع قراءة شواهد قبور أجدادها؟ وهل هناك أمة لا تستطيع أن تقرأ المصادر الأولى لأشعار وكتابات شعراء ومثقفين وكتاب طالما فخرت بهم تلك الأمة؟"

 

"هناك من يستهزءون من الأمر قائلين العالم صعد للفضاء، ونحن مازلنا نتحدث عن اللغة العثمانية، وهؤلاء اقول لهم إذا فقدتم ذاكرتكم التي يبلغ عمرها مئات السنين، ومسحتم موروثاتكم، فلن يكون بوسعكم سوى مشاهدة من يصعدون للفضاء، ستشاهدونهم فقط ولن تستطيعوا الصعود مثلهم، بل وستظلون تشاهدونهم لمئات السنين القادمة".

 

ثم بدأ الترويج الإعلامي والدعائي لتلك الخطوة حتى انعكست على إقبال الشباب التركي على الـ"كيبورد" ذي الحروف العثمانية (العربية)، وعلى كتابة بعض اللوحات في التجمعات والمؤتمرات بتلك اللغة العريقة، وبالتوازي كانت توصيات الهيئة العامة لمجلس شورى التربية الوطنية بزيادة الاهتمام بتعليم القرآن وحفظه في المدارس التركية، وكذا "إعادة صياغة منهج تدريس شخصية ودور مصطفى كمال أتاتورك في التعليم"، والتلويح بإمكانية مناقشة مسألة الفصل بين الجنسين في المدارس لاحقاً أو على الأقل عدم إلزامية الاختلاط بين الجنسين.

 

القلق لم يعترِ القوى العلمانية في تركيا وحدها؛ فكل أوروبا باتت قلقة من تلك القفزة باتجاه العودة للهوية العثمانية التي قامت على إعلاء القيم الإسلامية ضمن خطوات تفتيتية لأصنام وأقانيم النظام العلماني الديكتاتوري الذي استبد بتركيا لقرن من الزمان برضا وتشجيع ودعم من العواصم الأوروبية الرئيسة كلندن وباريس وبرلين وموسكو وبروكسل، والجميع أصبح يرى في تركيا/العدالة والتنمية عودة متسارعة نحو العثمانية، ويرصدون تزايداً في وتيرة هذه العودة وتقارب خطاها على نحو يؤشر إلى اطمئنان الحزب الحاكم ذي الجذور الإسلامية إلى متانة موقفه، وقدرته على تجاوز العقبات الداخلية والخارجية التي توضع يومياً أمامه، برغم العزلة التي أمسى يعاني منها من جراء سياسته الاستقلالية ودفاعه عن الهوية الإسلامية، وجهره بهذا علناً بعد اقتصاره على المضي بخطوات متأنية في فترة حكومته الأولى.

 

العين لا تخطئ الثوب "العثماني" الذي ارتدته تركيا اليوم برغم كل شواهدها "العصرية" ـ إن صح التعبير ـ وخطوة اللغة تعد بمثابة "إعلان حرب" على التغريب ومجافاة الأصول الإسلامية للبلاد، فكما يقول بولنت أردينتش الكاتب بصحيفة تقويم التركية: "سوف تنهض الأمة التي انفصلت عن ماضيها، على أقدامها من جديد. وسيتم التنقيب في الأرشيف العثماني الذي من شأنه اظهار المؤامرات التي حاكها الإنجليز والفرنسيين واليهود في الشرق الأوسط على مدى قرون. لذلك يتخوفون من تحقيق ذلك".

 

وتلك رسالة قرأها الغرب جيداً، ويعمل على تصويب مدافعه التآمرية على تركيا، ليس من الآن فقط؛ فهو قصف تركيا بعدة قذائف مسبقاً، لكنه في هذا المناخ والتوقيت يجد ذاته "مضطراً" أو هكذا تدفعه أحقاده الصليبية المعتادة على خوض معركته الأخيرة مع نظام أردوغان، مهما كلفته من أثمان.. وكيف لا يفعل، وهو يقرأ في الإعلان الأردوغاني عن "تركيا حديثة" في العام 2023 بمثابة إعادة للخلافة العثمانية في ذكرى مرور 100 عام على تغييبها.. إنها معركة المصير القادمة، ولقد شرع أردوغان وفريقه في الاستعداد لها جيداً.. فلقد أدرك أن تلك المعركة هي معركة هوية، ولن يخوضها إلا وهو "عثماني أصيل"..