أتاتورك .. دكتاتورية التقديس
3 رجب 1436
زهراء كرمان

في وقتٍ مازلنا نعاني فيه كأتراك من ظُلم النظام العلمانيّ الذي أسّسه مصطفى كمال أتاتورك، ما زالت المدارسُ التركيّة بمعلميها ومدرسيها تُدرّس أسطورة الغازي أتاتورك! ويقول الكماليون من أنصار أتاتورك عادة وفي مناسبات مختلفة “لو لم يكن أتاتورك لما كنّا، لأنه أنقذنا من الظلمات ولأنه وحده ناضل من أجل  أن يُنقذ وطننا من العدو! ويعتقدُ الكماليون أنهم يعيشون ويتنفسون في تركيا بفضل زعيمهم أتاتورك!

هذه الأمثلة وغيرها الكثير التي يضربها الأستاذ والمعلم أمام الطلاب والتلاميذ الأتراك في المدارس ستؤّثر تأثيراً كبيراً على فهمهم وتفسيرهم لتلك الفترة التي قضى فيها أتاتورك على الخلافة العثمانية.

 

 

تقديس أتاتورك

عن تقديس أتاتورك، فإننا وفي مدارسنا التركية نذكرُ اسمه مبجلاً كل صباح، ونلقي في حبه الأشعار والقصائد، وينشد التلاميذ والطلاب له وفي ذكراه مختلف الأناشيد. وعن صورته التي لا تفارقُ مدارسنا ومؤسّساتنا الحكومية فإننا نجلس أمامها ونتربّى في مدراسنا على أنها وكما يقول الأستاذ لنا تعيشُ في قلوبنا، كما وأنه –أي اتاتورك- ما زال يعيشُ بيننا و”يراقبنا” بعيونه الزرقاء في كل لحظة، و يجب علينا كطلاب ان نتصرّف تصرفاتٍ تليق بأبناء أتاتورك.

ورغم التقدّم والتطوّر الذي نعيشهُ في دنيا اليوم، لا تكاد تخلو مادةٌ  أو محاضرةٌ تعليمية إلا ويُذكر فيها أتاتورك مُعظما! حتى في تلك المواد الترفيهية، من دروس الرسم الفنية البسيطة، يتوجّب على كل طالب أن يرسم رسمةً تحت عنوانٍ يفرّق فيها وبطريقته الخاصة بين عهد الجمهورية التركية الجديدة “الحضارية”، وتركيا القديمة “المتخلفة” و”الجاهلة” على حدّ تعبيرهم.

ولتقريب الصورة أكثر، فأنه يتوجب على الطالب ان يرسم مفرقاً في رسمتين ما كان في عهد الخلافة العثمانية، وبين ما أوصلنا إليه أتاتورك وعلمانيّته من تغييرٍ في الثقافة والمبدأ. فعادةً ما يرسم الطلاب في لوحاتهم المطلوبة تلك، رسمة توضّح في جانب الورقة امرأة محجبة تلبسُ الجلباب الأسود، بجانبها رجلٌ بمعالم إسلامية ولديه لحية، يرتدي سروالاً طويلا وجبة. هذا عن الجانب الأول من الرسمة! أما عن الجانب الآخر منها فتكون هناك امرأة سافرة، خالعة للحجاب مرتدية للّباس قصير، يرافقها رجلٌ يلبس البدلة والقبعة إضافة إلى ربطة عنق ،مصطحبين طفلهم الوحيد إلى المدرسة.

بعد هذه اللوحتين أكاد أجزم أن مُعلمينا ومدرسينا في المدارس هم من نقشوا في أذهاننا مشهداً هم يريدونه، ويمنعوننا من مناقشة الحقائق التي يعتمدون عليها في كلّ نقاش يجمعنا وإياهم على ذات القضية.

 

 

العقيدة الكمالية الجديدة

ليس هذا فحسب، بل أشرك الكماليون بخالقهم، وذلك عام 1928 عندما ألّفوا كتاباً حمل عنوان “آمنت بالعقيدة الجديدة للأتراك”. وعن هذا الكتاب فأنه مليءٌ بالسخافات والجمل التي تُشرك مع خالق هذا الكون جلّ جلاله، تقديس مؤسّس الجمهورية التركية مصطفى كمال اتاتورك، فعبارةٌ تقول “آمنت بأتاتورك الذي يكون النموذج البطل والذي خَلق استقلال الوطن من لا شيء. وعبارة أخرى تقول: “آمنت بقوانين أتاتورك وأشهد أن لا يوجد يوم قيامة لتركيا”. وذهب آخرون إلى ما هو مناقضٌ وبأعلى صور التناقض في قولهم “أشهد ان الغازي –أتاتورك- احب الناس عند الله”.

ولتقريب صورة تعظيم الكماليين لأتاتورك، أورد لكم ما ذهب إليه شاعرٌ تركي في قصيدته التي قال في مطلعها في رثاء أتاتورك: “إن قبرك سيكون قبلة للأتراك” ويضيف: “انت أصبحت النبي العظيم للأتراك … والناس يموتون ولا يموت إله الأتراك”!

 

 

 

ومن الكماليين من أصابه جنون التعظيم المفرط لأتاتورك، فيسندون الأمثال والحكم الإسلامية المأثورة عن الخليفة الإسلامي “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، إضافةً الى أمثال وحكم قالها سلاطين وحكماء لا يرتبط فيها أتاتورك بأيّ صلة، ألا أن اتباعه يقولون أن هذه الاقوال والحكمَ لزعيمنا أتاتورك! ومن تلك الأمثال والحكم على سبيل المثال لا الحصر، قولهم أن اتاتورك يقول في حكمةٍ له أن “العدل أساسُ الملك” و “سيد القوم قروييهم وفلاحيهم” و “أما الاستقلال او الموت” و “العقل السليم في الجسم السليم”  و “المرشدُ الحقيقيّ في الحياة هو العلم” وأمثال أخرى وحكمٌ كثيرة نسبت لأتاتورك من غير أن ينطق بها!

أقولها وبكلّ أسى، أصبح اتاتورك يُعبد بيننا كصنم الجاهلية الأولى، وكآلهة العرب قبل الاسلام “اللَّاتِ والعزى”.. أعوذ بالله من انحراف وتطرّف الكماليين حين يبالغون في حبّ زعيمهم أتاتورك كحبٍ أعمى لا يميّزون فيه الخطأ من الصواب، فتراهم عندما يتكلمون ويتحدّثون عنه هم للجنون أقرب منهم للوعي. أرى أن من يُناصر أتاتورك ويقوم بهذه الاعمال من أصحاب الفكر الكماليّ قد ألحق الضرر بزعيمه أكثر من غيره!

 

 

ولتماثيل أتاتورك في تركيا حكايةٌ أخرى، وقد يكون من المناسب للدخول في هذه القصة أن ألفت القارئ إلى أنه لو تجوّلت في أحياء كوبا مثلاً، قد يصعُب عليك أن تعثر على تمثالٍ يجّسد لـ”فيدل كاسترو” ثورته، وهو على مكانته الكبيرة بين الكوبيين إذ يعتبر رجل الدولة الأول، وصاحب الثورة الكبيرة فيها، فهو من أسقط الديكتاتورية العسكرية في البلاد. وعن السبب في غياب تمثاله في وطنه، فإنه يعودُ لما قاله “فيديل كاسترو” لشعبه “أعطوا الأوّلية والأهمية للبلاد وليس لي.. ولا تقدسوني ولا تجعلوا مني صنماً بينكم”.

في ذات الوقت ومن أغرب ما يُمكن للعقل البشريّ تصوره أن لأتاتورك تمثالٌ في العاصمة الكوبية !، وتماثيل أخرى تملئ تركيا من أقصاها إلى أقصاها!

يعلُّق كاتبٌ تركيّ على مشهد أتاتورك الأول، وما نحن عليه حاليا و يقول منذ أن رأيت مصطفى كمال أتاتورك  لأول مرّة  فهمتُ ما سيحدث له وأيقنت أنه سيُقدّس، فكان ينفّذ ما يريد دون نقاشٍ من أحد، وكانت أقواله تمجّد. وشعرت بأنه هو الاسم الوحيد الذي سيبقى من حرب التحرير، وتوقعت أنهم سيصنعون له تماثيل يكتبون عليها مبادئه، وستوضع صورته على العملة النقدية للبلاد، وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك حينما توّقعت بأنه حتى القانون سيحمي أتاتورك وذلك بمنع إبداء أيّ فكر ٍ معارضٍ لأفكاره، والكلام هنا للكاتب التركي، ويواصل كلامه وقد توّقع منذ ذلك الحين بأنه وبعد أن هُزم العدو ثم قامت الإمبراطورية العلمانية بأن أتاتورك سيُحارب نفسه بنفسه،وسيثور الشعب مطالباً بالحرية وثائراً على انقلابه على الدولة العثمانية وأيقنت بأنه لن تبقَ سوى صوره .وبالفعل هذا ما كان .. ذهب أتاتورك إلا أن صورته ومبادئه ما تزال قائمة وجاثمة على صدورنا بتقديس أنصاره واتباعه!

 

 

ضرر الكماليين لأتاتورك

اسمحوا لي أن آخذكم بجولة تفكر، تكون أشبه بطريقة تفكير الكماليين، ولكن هذه المرّة بطريقتي الخاصة.

لو لم يكن أتاتورك موجوداً  لما كان الفرنسيون احتلوا وطننا، ولما أتو لبلادنا بالعلمانية بدلاً من الخلافة العثمانية التي كانت توحّد الأتراك، والأمة بأجمعها بقالبٍ إسلاميّ مهيب، ولما غيّروا حروف لغتنا الاصلية التي استخدمها أجدادنا لمئات السنين وأبدلوها بحروفٍ غيرها، وهي ما يعرف الآن بالأحرف اللاتينية إذ لغرابتها تجمع بين 6 لغات في لغة واحدة!

بل، لو لم يكن أتاتورك موجوداً، لما تمكن الإنجليز من منع الطربوش والجلباب وهي من الزيّ الإسلاميّ والعثمانيّ، فهو من سهّل لهم منعه وحظره في بلادنا ليضعوا بدلاً منه القبعة وربطة العنق والرباط، التي هي من صميم ثقافتهم التي أجبروا الناس على ارتدائها في بلادنا!

وسأذهب إلى أكثر من ذلك، وهو لو لم يكن اتاتورك موجوداً لما استطاع الايطاليون من تغيير التقويم الهجريّ الذي مبتدأه من تاريخ هجرة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ليضعوا بدلاً منه التقويم الميلادي، فهو –أي أتاتورك- من ساعدهم على وضع التقويم الميلادي بدلاً من الهجريّ ليغيروا بعد ذلك أجازتنا الرسمية من يوم الجمعة المبارك عيد المسلمين ويوم اجتماعهم الأغر، الى يوم الأحد إجازة المسيحين ويوم عيدهم!

 

 

ختاما،

وبالرغم من كل ما ذُكر من صورة نمطية بالغ الكماليون في رسمها لزعيمهم في أفكار جيلنا، يمكنني أن أرى وبوضوح طريق الحق في جيلنا الشبابيّ الجديد، الذي سيتمكن من شقّ طريقه من بين ركام الضلال التي رسمتها العلمانية وأن يعلو ويظهر على كل مناد بها متشدق بخرافتها، ولحسن حظنا كجيلٍ تركي جديد لم نعايش عصر الغازي مصطفى كمال اتاتورك ولم نمر بأيام كان فيها هو زعيم بلادنا، بل ابتلينا بمن هو على نهجه سائر ولكلامه مقدس!

 

المصدر/ تركيا بوست