من منكم ..قابل عراقيا ..يبتسم ؟
14 رجب 1436
طلعت رميح

وكأن ما يجرى، هدفه الحقيقي هو تدمير وتحطيم بنية المجتمع وإبدال الإنسان العراقي بآخر.لقد جرى تركيز الاهتمام على الدولة والسياسة منذ الحرب العراقية الإيرانية وحتى الآن،دون انتباه كاف إلى أن الأشد خطرا في نتائج كل ما جرى عبر ما يزيد على الثلاثين عاما، هو أن المجتمع والإنسان العراقي واجه حربا وقتلا دائما،وتفكيكا وتدميرا وتحطيما بلا توقف.

 

والأمر هنا لا يتعلق بالجانب الإنساني وكثير من طرحه يأتي ممجوجا للأسف وبعضه يستهدف توفير الغطاء لاستمرار ما يجرى بل بالنتائج السياسية والاقتصادية وعوامل قوة ومعالم وحدة المجتمع..أو بقائه مجتمعا ومعالم ثقافة وطرق تفكير وحياة الإنسان أو ما بقى منه.

 

لقد انغمس المحللون والساسة بالحدثين السياسي والحربي في متابعة الحرب المتواصلة على العراق،وبحثوا دوما تأثيراتها على توجهات وتشكيلة الحكم وعلى العلاقات الإقليمية،دون انتباه إلى مؤثرات وإفرازات ما دفعه العراق من ثمن -بات يفوق ما دفعته ألمانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية على الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والنفسية.وفي ذلك لم تعد الوطنية والهوية والسياسية هي ما تشكل أوضاع المجتمع وفكر الإنسان في العراق وحدها،بل نتائج كل هذا التدمير الإنساني المجتمعي أيضا.

 

إنسان العراق عاش جيل كامل منه لا يرى إلا دوامة الحرب والاقتتال الخارجي والداخلي دون شعور ولو للحظة واحدة على مدى ثلاثين عاما -لا بالأمن السياسي ولا الاجتماعي ولا الاقتصادي ولا النفسي ولا الوطني.عاش يتخطفه الموت والخوف..عاش مطاردا بالموت ساعيا لإنقاذ النفس والأهل..ساعيا وباحثا عن مجرد البقاء على قيد الحياة!

 

 

لقد عاش إنسان العراق ولا يزال داخل أسوار مذبحة بشرية متواصلة بلا انقطاع،حتى لا يكون من المبالغة القول،بأن دماء العراقيين صارت بقدر ما توفره جغرافيته من مياه.عاش شيعة العراق والكرد مأساة دفعوا خلالها ثمنا للخلافات والصراعات بطريقة أو بأخرى.لكن معاناتهما توارت لتخلي مكانها لمذبحه بشرية هائلة لسنة العراق.دفع المجتمع العراقي ثمنا باهظا من أرواح إنسانه خلال الحرب العراقية الإيرانية وخلال حرب إخراج قوات صدام من الكويت المحتل وخلال حرب التدمير الممنهجة للمجتمع والإنسان والمدن والاقتصاد والنمط الحضاري التي جرت أثناء الحصار ثم خلال الغزو والاحتلال الأمريكي، وما ارتبط بها من حرب التدمير المخطط للمجتمع لكسر إرادته التي عبرت عنها المقاومة،وفي ذلك تواصلت أعمال الترويع عبر أربع حروب.بعدها انتظمت حرب إبادة طائفية للسنة وهم من تحملوا تبعات مقاومة الاحتلال - بدعم إيرانى مارستها وما تزال الميلشيات الطائفية.

 

 

جرى ويجرى القتل عشوائيا على صعيد اختيار البشر ومخططا على صعيد تحديد الكتل السكانية المستهدفة وواسعا وكثيرا بقدر ما تتمكن آلات القتل من العمل، فلم يعد لإنسان أن يأمن لا في الشارع ولا العمل ولا المنزل، فمجرد وجوده بمنزله هو سبب كاف لقتله فمنهم من يختطَف ليلقَى به جثة هامدة في شوارع ليل دائم الإظلام ومن كان واعيا بذهابه إلى الموت لحظة وصول الميلشيات وقرر الرفض فقبره صار منزله،هو، ومن كان يود الحياة معهم من زوجة أو أطفال أو أب أو أم.ومجرد مروره بمكان هو سبب كاف لقتله عبر السيارات المفخخة او إطلاقات رصاص القناصة أو كواتم الصوت،وذهابه للصلاة سبب كاف لهدم المسجد فوق رأسه بقذيفة أو بتفجير أو بسيارة مفخخة عند انتهاء الصلاة.وهكذا اندفعت الحالة في العراق إلى نمط القتل الأشد همجية.وصار الإنسان محصورا ومحاصرا بين القتل من الحشد الطائفي والحرق والسحل وحرق المسكن والطرد من الأرض وبين تنظيم الدولة بما يفرضه على من يتمسك ببقائه على أرضه،وفوق القتل السابق قتل آخر من أعلى عبر الطائرات الأميركية أو مجازر الإعدام الجماعي.صار الإنسان أمام خيار في الموت لا خيار في الحياة.

 

 

تلك الصورة يجب تأملها جيدا،وإدراك مغزى أن لا أحد استطاع حصر القتلى والمغدورون بقصف الطيران أو الرشاشات أو الدبابات أو في السجون والمنافي أو حرقا عبر زمن امتد لنحو 25 عاما سجل فيه العراق الرقم الأعلى في عدَّاد الموت في العالم.

عاش إنسان ومجتمع العراق ويعيش مقتلة ومذبحة بشرية ممتدة بلا انقطاع وبلا توقف..ويكون منطقيا أن نسأل الجميع: من منكم..قابل عراقيا..يبتسم؟!

 

 

المصدر/ الشرق