الأحداث الأرمنية والبلقانية في آخر أيام الخلافة العثمانية
19 رجب 1436
محمد شعبان صوان

الحوادث الأرمنية

يقول المؤرخ الأمريكي جستن مكارثي عن القضيّة الأرمينة إن الاستعمار الروسي والتطفّل الأوروبي والعصبية الثورية الأرمنية بالإضافة إلى الضعف العثماني يشتركون في مسؤولية ما حاق بالمنطقة من خرابٍ ودمار زمن الحرب الكبرى الأولى (1914 وما بعدها) ويرى أن الحوادث الأرمنية كانت جزءً من صراعٍ كبير وعملية تاريخية واسعة قُتل فيها من المسلمين خمسة ملايين ونصف وهُجّر خمسة ملايين من البلقان والقوقاز وجنوب روسيا في القرن الواقع بين سنتي 1821-1922 ، وفي الوقت الذي عرف العالم كلّه معاناة الأرمن فإن معاناة المسلمين التي لا تقلّ عنها ظلّت طيّ الكتمان وبحاجةٍ إلى مراجعة تاريخية، وكما قُتل الكثير من الأرمن فقد قَتلَ الأرمنُ كثيراً من المسلمين، ويوزّع مسؤولية الوفيات الأرمنية في قوافل الترحيل، بين العثمانيين (الاتحاديين) والروس والثوريين الأرمن وأنصارهم[1].

 

 

أما المؤرّخ جيرمي سولت فيوثّق دور التبشير الأمريكي والإنسانية البريطانية في خلق المسألة الأرمنية ، وينقل عن أحد المبشرّين قوله أنه لو تركت أوروبا الأرمن مع الأتراك لكان أفضل من إثارتهم ثم إحباطهم ، كما ينقل عن المستشرق والعميل البريطاني إيفن فامبري قوله إن دور بريطانيا في إثارة الخلافات والأحقاد بين عناصر الدولة العثمانية لا ينكرُه إلا أعمى[2].

 

 

ويقول في كتابه “تفتيت الشرق الأوسط: تاريخ الاضطرابات التي يُثيرها الغرب في العالم العربي” بعد أن يورد تقديرات المؤرّخين لعدد الضحايا الأرمن في الحرب الكبرى الأولى 1914-1918 (حوالي 800 ألف على الأكثر) بعيداً عن المبالغات التي وصلت إلى مليون ونصف: “ويجب أن توضع هذه الأرقام في إطار مجموع المدنيين العثمانيين الذين قضوا، وهو من ثلاثة إلى أربعة ملايين، وعادت الجيوش العثمانية (بعد الحرب) إلى الهياكل الفارغة للمدن والبلدات والقرى المدمرة والأنقاض والجثث المبعثرة بينها، وإلى كلّ إشارةٍ أو رمزٍ للوجود المسلم العثماني فيها، كالمساجد والمدارس والمقابر وتكايا الصوفيين والأسواق وبنايات الحكومة، دُمّرت كلها، وفي منطقة كانت فيها ، مثلاً، غالبية السكان من المسلمين، كان ضحايا الحرب المسلمون، تبعاً لذلك، من الأكراد في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية، وهذه النقطة ترسم خطاً عريضاً يُبرز المظهر الكردي المهمَل بالنسبة للمسألة الأرمنية”[3].

 

 

أما المؤرخان شو فيوضّحان دور الدعاية الروسية التي طوّرت واستعملت القضية الأرمنية “بمهارةٍ كبيرة” في الوقت الذي لم تكن فيه روسيا سعيدةً بالاستقلال الأرمني في الدولة العثمانية لأنه سيثير الأرمن وبقية القوميات عندها وكانت تفضّل إثارة الاضطرابات للعثمانيين فقط، وفي هذا الصراع الطويل استغلّ الروس والأوروبيون الأرمن-الذين لقّبهم التاريخ العثماني بالأمة الصادقة- لإثارة المشاكل للدولة العثمانية والمطالبة بوطنٍ مستقل على رقعةٍ واسعة لا يؤلّفون فيها أغلبية، ولم تتورط الأغلبية منهم في تأييد هذا المشروع وأحجمت عن مناصرة الثوريين [4].

 

 

وعن التقويم الشامل للوضع يقول المؤرّخ دونالد كواترت أنه عندما اندلعت الحرب الكبرى الأولى سنة 1914 انضمّ الأرمن أو بعضهم في روسيا للهجوم الروسي على الدولة العثمانية، وشاركهم في ذلك بعض الأرمن العثمانيين مما أدى إلى ارتياب حكومة الاتحاد والترقي في ولاء الأرمن، فأصدرت أوامر سنة 1915 بترحيل جميع الأرمن في غرب الأناضول بعيداً عن ساحات القتال “وتبيّن الوثائق الرسمية التي لا نشكّ بصحتها، أن الأوامر كانت تهيب بالمسؤولين تأمين الحماية اللازمة للأرمن والعناية بهم والمحافظة على ممتلكاتهم وسلامتهم أثناء نزوحهم القسري، ولكن ذلك لم يتحقّق” إذ انتقل المهجّرون سيراً على الأقدام في ظروفٍ مأساوية ومات بعضهم من سوء التغذية والأمراض وقُتل آخرون بأيدي قطّاع الطرق، ولا مفرّ من الإقرار أن الموظفين العسكريين والمدنيين كانوا مسؤولين عن مقتل أعدادٍ كبيرة من الأرمن المدنيين في الوقت الذي كان واجبهم يقضي بالمحافظة على رعايا الدولة.

 

 

وتفسيرُ هذا التناقض كما يشرح كواترت أن هناك فئةً متمكنة ضمن جمعية الاتحاد والترقي كانت تسعى سراً لاستخدام ذريعة الإجلاء وسيلةً للقضاء على الأرمن خشيةً من نشاط المنظمات الثورية الأرمنية ومن عواقب انحياز الأرمن للعدو الروسي، وقامت هذه الفئة وهي بزعامة طلعت باشا بتكوين القوات الخاصة التي عُهِد إليها بالتهجير فاستباحت الدماء “وكانت تتلقى أوامرها من هذه الفئة حصراً عبر شبكة اتصالات خاصة بها وليس عبر القنوات الرسمية”، أي أن أقطاب الإتحاد والترقي ردّوا على التمرد الأرمني بعصبيةٍ قومية مقابلة، وقد تكون هذه الوقائع صحيحة أو غير صحيحة ولكن أدلّتها تبدو مقنعة وإن كانت غير موثقة بسبب ضياع وتلف السجلات الرسمية لجمعية الاتحاد والترقي، ولكن الأرمن لم يتعرّضوا للقتل والتشريد خارج المناطق المتاخمة لمسرح الحرب، وفي اسطنبول وإزمير ظلّ الأرمنُ يعيشون بسلام في الفترة 1915-1916 دون أن يمسّهم سوء[5] .

 

 

(ملاحظة: البروفيسور الراحل دونالد كواترت لم يكن مَرضِيّاً عند الحكم في تركيا رغم خدماته المشهودة للتاريخ العثماني ودراساته العميقة في هذا المجال، واضطر في سنة 2006 لترك منصبه في رئاسة معهد الدراسات التركية في جامعة جورج تاون في واشنطن بضغطٍ من السفير التركي آنذاك بسبب الخلاف مع وجهة النظر التركية في المسألة الأرمنية، كما تقول ذلك موسوعة ويكيبيديا:

http://en.wikipedia.org/wiki/Donald_Quataert )

 

 

وليس من العدل أن تتحمّل الخلافة الإسلامية جريرة العصبيات القومية كالمجازر المتبادلة بين الأرمن والمسلمين (1915)، بعدما كان الوئامُ سائداً إلى درجة أن لُقب الأرمن في التاريخ العثماني كان “الأمة المخلصة”، أو كالطرد السكاني التركي-اليوناني المتبادل (1923) بعدما كان السلطان العثماني هو خليفة امبراطور بيزنطة لدى اليونانيين، أو كالصراع العربي-التركي (1916) بعدما كانت منزلة العرب في الدولة العثمانية هي منزلة “الأمة النجيبة”، وهي الصراعات التي اجتاحت الخلافة نفسها وعصفت بها وبالعالم الإسلامي في النهاية، وعلى جيراننا وشركائنا الأرمن إذا كانوا يريدون من الآخرين الاعتراف بمعاناتهم الأكيدة ألا يحتكروا دور الضحية وأن يعترفوا في المقابل بمعاناة الآخرين التي كان لهم دورٌ كبيرٌ فيها بدفعٍ من الروس والأوروبيين ، وبدلاً من التراشق بالتهم الآن علينا أن نتعلم من تاريخنا الطويل الذي أطلق العثمانيون فيه على الأمة الأرمنية لقب الأمة المخلصة والصادقة وهو دليل على حسن الجوار والتعايش الذي وسم تاريخنا قبل أن يتدخّل عنصر استثنائيّ طارئٌ وغريب هو الغرب وهو الذي قطع الطريق على مئات السنين من الانسجام الذي هيمن على معظم هذا التاريخ، وعلينا أن نتساءل لماذا سالت الدماء فقط في تلك الفترة المتأخرة من الزمن العثماني وليس قبل ذلك؟ ألا يدل هذا على تطفل من عنصر غريب وطارئ لم يكن له وجود قام بإثارة العداوات التي استجاب لها الأرمن ولم يقصروا في إسالة دماء جيرانهم المسلمين كما سالت دماؤهم هم أيضاً؟ وعلينا بعد ذلك أن نتعلم أن حتمية الجوار الجغرافي تتطلّب منا ألا نُدخل الغرباء الغربيين فيما بيننا وأن نتشارك الحياة على هذه الأرض دون استقواء ولا اضطهاد. 

 

 

فتن البلقان

وعن فتن البلقان العثماني يقول المؤرخ زاكري كارابل إن هذه المنطقة طالما اضطرب توازنها بسبب القوى الأوروبية، التي كانت تعامل تلك الشعوب كأدوات رهانٍ جاهزة للاستخدام والتضحية[6]،ويفند كواترت وجود دافعٍ يتعلق بتردّي الأحوال الاقتصادية في الولايات البلقانية العثمانية لدى الحركات الانفصالية ، والتي كانت تحرّكها عواملُ خارجية روسية وأوروبية يهمها إثارة الاضطرابات للعثمانيين كما كان الأمر في الحالة الأرمنية، ويؤكّد هذا المؤرخ أن بلاد البلقان كانت تنعم بازدهارٍ اقتصاديّ عشيّة انفصالها عن الدولة العثمانية وما لبثت بعد استقلالها أن ساءت أوضاعها المعيشية بطريقة أصبحت معها في حالةٍ أسوأ مما كانت عليه قبل استقلالها[7].

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
●الهوامش

[1] -جستن مكارثي، الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين (1821-1922)، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2005، ترجمة: فريد غزي، ص 19-24 و191 و212 و 257.

[2] –Jeremy Salt, Imperialism, Evangelism, and the Ottoman Armenians 1878-1896, Frank Cass, London, 1993, pp. 154-155.

[3] -د. جيرمي سولت، تفتيت الشرق الأوسط: تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي، دار النفائس، دمشق، 2011، ترجمة: د. نبيل صبحي الطويل، ص 89.

[4] –Stanford J. Shaw & Ezel Kural Shaw, History of the Ottoman Empire and Modern Turkey, Vol. II, Cambridge University Press, 2002, pp. 188, 200-205.

[5] -دونالد كواترت، الدولة العثمانية 1700-1922، مكتبة العبيكان، الرياض، 2004، ترجمة: أيمن أرمنازي ، ص 326- 328.

[6] -زاكري كارابل، أهل الكتاب: التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب، دار الكتاب العربي، بيروت، 2010، ترجمة: د. أحمد إيبش، ص 302.

 

[7] -دونالد كواترت، ص 142.

 

 

المصدر/ تركيا بوست