بين الإنسان والشجرة
6 صفر 1438
د. عمر بن عبد الله المقبل

لا أدري لم استوقفني منظرُ شجرةٍ ـ مقابِلة لمنزلي قبل أيام ـ نستظل بظلها، ونتقي به لهب الشمس المحرقة..! توقّفتُ عندها قليلاً وتساءلتُ: كم يوجد في الأرض من شجرة من جنس هذه الشجرة ومن غير جنسها؟ وما الذي جعل لها هذه القيمة عندنا؟ وهل ستكون لها مكانةٌ لو كانت دون نفعٍ أو أثر؟

 

هكذا هم الناس! نلاقي في حياتنا الكثيرَ والكثير، لكن لا يَبقى في الذاكرة منهم، إلا من كان له أثرٌ علينا؛ بعلمٍ أو تجربةٍ أو صحبةٍ حسنة، أو موقفٍ إنساني، أو غير ذلك من صور التفاعل الإيجابي.

 

يلفتُ نظري كثرةُ القواسم المشتركة بيننا وبين الشجرة، ومن ذلك: أن لكلٍ واحدٍ منا عُمرٌ افتراضيّ، فهو يُوجد بعد أن كان عدَماً، ثم يعيش ما كتب اللهُ له، ثم يموت!

 

وأكثر الأشجار أثراً ليست تلك التي عُمّرت طويلاً، أو أَخذت مساحةً أوسع في الأرض، أو استهلكت ماءً أكثر لسقيها، كلا.. بل هي تلك التي انتفع بها الناسُ أكثر، وهكذا الإنسان.. لا تقاس حياتُه بطول سنواته، أو بكثرةِ أمواله، وتعدُّد شهاداته، بل بمساحة تأثيره في هذه الحياة، ولهذا لما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يوصل جُمْلةً من هذه المعاني؛ طرح سؤالاً على الصحابة فقال ـ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ـ: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقُها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي» فوقع الناسُ في شجر البوادي، قال ابنُ عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة»([1]).

 

فتأمل معي ـ أخي القارئ ـ روعةَ هذا التعليق من القاضي عياض ـ رحمه الله ـ حيث أبدَعَ في بيان وجه الشبَه بين المؤمن والشجرة فقال:

"ويشبّهها بالمسلم: لكثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها ووجوده على الدوام.

 

وأما في رؤوسها: فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بَعْدُ هو مما يُدّخرُ فلا ينقطع نفعُها، قال الله تعالى: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾[إبراهيم: 24- 25]، ثم في جميعها منافع: مِن استعمال جذوعها في البناء والآلات، وجرائدها حطباً وعصِيّا ومخاصِر ومَشاجِب وحُصُراً، واستعمال ليفها حبالاً وخُطُمَاً وحشو الوسائد، والمرافق والبراذع وغير ذلك، واستعمال خوصِها مَكاتل وحبالاً وحُصُراً.

 

ثم في جمال بنائها، واعتدال قيامها، واستدارة جذوعها وثمرها، ثم تؤكل رطبة وجمارة، فهي منفعةٌ كلها، وخيرٌ وجَمال([2]).

 

وهكذا ـ والله ـ المؤمن النفّاع، كثيرُ الخير.. يرى الناسُ مِن أثره في الحياة وبعد الممات.

 

ألسنا نرى كم انتفعت الأمةُ بأثر جهاد الصحابة العلمي والعملي في بلاغ الرسالة، ونشر الشريعة؟ وقُلْ مثل هذا في التابعين ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أليست كتبُ الأئمة الأعلام بين أيدينا؛ نقرؤها، ونستجلي منها ما يُعين على فَهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهم في قبورهم منذ مئات السنين!

 

وفي المقابل..فمِن الأشجار ما يكون منظره جميلاً، لكنه يحمل في ثنايا أغصانه الشوكَ المؤذي! وهكذا حالُ بعضِ المنافقين، وأصحابِ المصالح الآنية.. قد تجد منهم جمالَ منطقٍ، أو حُسْنَ بيانٍ، أو مظهراً متميزاً ، ثم ما أسرع ما يؤذيك بما يَظهر مِن مخابره السيئةِ عند أدنى ملابسةٍ معه! فاحذر، فإنك لا تجني من شوكِ هؤلاء عنباً.

 

وبالجملة.. فإن الأشجار كما الإنسان، ليست سواء، والعاقلُ مَن تشبّه بالشجرة حسنة المنظر، جميلة المخبر، عظيمة الأثر.. والسعيدُ من تأمَّل واعتبر.. جعلنا الله مباركين أينما كنا.

 

__________________________
([1]) متفق عليه: البخاري ح(61)، مسلم ح(2811).
([2]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 345).

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل