مَنْ قال: إنك لا تكسب؟!
11 ربيع الثاني 1438
د. عمر بن عبد الله المقبل

حين يجمعك لقاءٌ ببعض إخوانك من طلاب العلم والدعاة، ممن ساروا في طريق الدعوة وتعليم الناس مدةً من الزمن؛ فإنك تسمعُ من بعضهم لغةً تشي بالفتور، وتفيض بالتذمّر من الواقع، وتتكدرُ من مخرجات الدعوة، وربما وجدتَ مِن بعضهم من يذكر لك أن دروسه العلمية يحضرها عشرة طلاب أو أقلّ!

هذا الفتور إن كان عارضاً فهو طبيعي، ولا يكاد يسلمُ منه أحد، وفي ذلك الأثر المشهور: "لكل عمل شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك"([1]) وإنما الإشكال حين يتحول إلى تبريرٍ للكسل، والقعود عن القيام بما يقدر عليه من واجب الدعوة والبلاغ!

والملاحَظ في عبارات بعض هؤلاء الإخوة إبرازُ جانب الأرقام، وتضخيم المكاسبِ المحسوسة، وكأنها حسابات بنكية، تأخذ بقدر ما تُوْدِع، فيقيسُ نجاح دعوته وجدوى الاستمرار في دروسه بكثرة ما يرى ويشاهد من المستفيدين! وهذا قصورٌ بيّن في الحكم، ومخالفٌ للقاعدة القرآنية المحكمة في باب الدعوة: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[الشورى: 48]، وهذا لا يلغي أهمية المراجعة، وتقييم العمل وتقويمه، والبحث عن أسباب القصور وتداركها، لكن هذا شيءٌ وترك العمل شيءٌ آخر.

إن من اليسر والسعة في طريق الدعوة أن الله تعالى لم يتعبدنا، بل ولن يحاسبنا: لماذا لم يهتدِ على يديك أحد؟ أو لماذا لم يهتد على يديك إلا قليل؟ فمن الأنبياء ـ وهم سادات الدعاة ـ مَنْ يأتي يوم القيامة وحيداً ليس معه أحد.

من المحزن أن يُنظر إلى مكاسب الدعوة بهذا الاختزال الشديد، أو أن تُرهن لوقتها الحاضر، أو الشيء الملموس، فمقصد القيام بالدعوة أكبر من عامل الزمن ومكاسب الداعية التي وفقه الله لها، فمن وراء ذلك قيام الدعوة نفسها، ورؤيةُ الناسِ للدعاة، وقيامُ الحجة عليهم، وغيرها من المقاصد.

ومن تأمل قصةَ نوح عليه السلام؛ فسيجد فيها جواباً عن ذلك السؤال المتكرر: ما دام سبق في علم الله أنه لن يؤمن معه إلا القليل، فلم بقي كل هذه المدة؟

والجواب: أن بقاء الدعوة ذاتهَا مقصدٌ شرعي أكبر من نتيجتها وعدد المستجيبين لها، وأبلغُ من ذلك ـ في وضوح الإجابة عن أمثال هذه التساؤلات ـ: أن الله تعالى يبعث أنبياءَ سبقَ في علمِه تعالى أنه لن يؤمن معهم أحد! أفكانت دعوتهم هدرًا؟ كلا، وحاشا لله.

ثم دعنا نفترض أن معيار العدد والمخرجات المشاهَدة هو من أهم المعايير لقياس أثر دعوتك، وأنك لم تر شيئًا ظاهرًا، فمن قال: إنك لم تكسب؟ ألا تعلم أن تثبيت الناس على الخير الذي هم عليه من أعظم المكاسب والإنجازات؟ ألستَ تعلم أن من أهمّ أسباب الثبات الذي يتنعّم به كثيرٌ ممن يستمعون إليك ـ وإلى غيرك من الدعاة وأهل العلم ـ رغم كثرة البث الفاجر الذي يوجَّه عن طريق النت والفضائيات؛ هو بَذْلُكَ وبذلُ إخوانك من الدعاة؟ عبر هذه الدروس والمحاضرات والخطب، ولولا ذلك لانحرفوا.

من قال: إنك لم تكسب؟! وأنت بقيامك بالدعوة نفسها تحقق عبوديةً لا يوفق لها أكثر الناس! أي ربح وكسب أعظم من هذا لمن صحت نيته؟

من قال: إنك لم تكسب؟! إذْ ليس بالضرورة أن يأتي إليك الناس ـ الذين انتفعوا بدعوتك وتعليمك ـ ليقولوا لك: جزاك الله خيرًا يا فلان، فدرسك هذا ثبتني، أو أنا قد اهتديت بسببك! فقد يحجب الله عنك أمثال هذه الكلمات ولا يطلعك على هذه المكاسب؛ رحمةً بك، إذْ قد يدخلك العجب المهلك أو الرياء الماحق للثواب.

من قال: إنك لم تكسب؟! وأنت ترى هذه الوسائط الإلكترونية المعاصرة التي تنقل علمك ودعوتك؟! وقد رأيتَ وسمعتَ كيف أن داعيةً يبث خطبته أو درسه، فيتابعه في نفس اللحظة عشرات بل مئات الآلاف من المشاهدين، فضلاً عمن يأتي ويشاهد هذه الدروس المحفوظة على الشبكة العالمية، فيطّلع عليها بعد ذلك مَنْ شاء الله تعالى من العباد، إلى سنين وعقود عديدة من حين إلقائه، بل قد يكون صاحب هذا الدرس قد مات، وما زال الناس يستمعون ويستفيدون من ذلك الدرس!

إذن أنت لا تدري متى يستفاد منك، ومَنْ سيهتدي بكلمتك أو درسك، فقد يكون منهم - وبلا مبالغة - من لا زالوا بَعْدُ في أصلاب آبائهم!

مَنْ قال: إنك لا تكسب؟ وأنت تؤدي شكر نعمة اللسان بالدعوة إلى الرحيم الرحمن؟

مَنْ قال: إنك لا تكسب؟ وأنت تثبّتَ نفسَك بما تلقيه من العلم والخير؟ قال أبو حازم: «إني لأعظ وما أرى للموعظة موضعًا، وما أريد بذلك إلا نفسي»([2]).

مَنْ قال: إنك لا تكسب؟ وأنت تبرئ ذمتك بالبلاغ، وتدفع عن نفسك معرة السؤال: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[الأعراف: 164].

مَنْ قال: إنك لا تكسب؟ وأنت لا تدري في أي طلابك أو المستمعين لمحاضرتك البركة؟ فقد يحمل عنك علماً، ثم ينشره في الخلق نشراً تراه أعظم ما يثقل به ميزانك، فنحن لا نعرف من هو الذي أثّر في ابن تيمية ولا في محمد بن عبدالوهاب ولا ابن باديس والإبراهيمي، فضلا عن مئات ممن حفلت بهم كتب التراجم، من العلماء والمصلحين في غابر القرون.

أحدُ العلماء المعاصرين المغمورين إعلاميًا، قال لي مرةً: إن هدايتي كانت بسبب مجلس وعظ حضرته عام 1402هـ عند الشيخ أبي بكر الجزائري في المسجد النبوي، ختم الله له بالحسنى.

وتأمل هذه هذه الكلمة المسددة من ابن المبارك: لا أعلم بعد النبوة شيئاً أعظم من بث العلم([3])، فبذل العلم أعظم من بذل المال.

وثمة معنى أختم به هذه الأحرف، وهو: أن الثبات على الدعوةِ هو في ذاته دعوة، والثبات على المنهج رسالة تتناقلها الأمة جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن!

لقد أدركنا من كبار مشايخنا من بلغ منزلة العلماء الراسخين، ومع هذا لم يكن يجلس إليه إلا بضعة شباب، بل أحياناً يأتي إلى الجامع ولا يجد طالباً واحداً، ومن هؤلاء شيخنا ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ فإنه كان أحياناً ـ وهذا في أواخر التسعينات الهجرية ـ يأتي ولا يجد في الجامع أحداً، فيبقى فترة المغرب يقرأ القرآن، حتى يؤذن لصلاة العشاء حتى لا يغير منهجه في التزام وقت الدرس، فثبت على هذا، فلم يمت إلا ومسجده يكتظُّ بمئات الطلبة، وأما المنتفعون بعلمه فلا يحصيهم إلا الله.. تُرى أي شيء كان ابن عثيمين لو ترك التعليم؛ بحجة ندرة الحضور؟ وأي دروسٍ عملية تربوية كانت ستفوتنا، لو تخلى عن ثباته وصبره على التعليم؟ لقد كان صبره دعوة، وثباتُه مدرسةً أخرجتْ للأمة كتباً مباركة، وتلاميذ نفع الله بعلمهم ودعوتهم.

وبعد: فها أنت ـ أيها الداعية المبارك ـ رأيتَ أن خزانتك ملأى بكل هذه المكاسب العظيمة، فعلامَ توقف كل هذه الأرباح بيديك تحت وطأة البحث عن النتائج السريعة!

اللهم فاجعل حياتنا دعوةً، ودعوتَنا حياةً، وثبتنا على الحق حتى نلقاك، واجعلنا من أئمة المتقين.

________________________________________

([1]) أخرجه أحمد ح(6477)، في قصة مراجعة عبدالله بن عمرو بن العاص، والحديث أصله في الصحيحين دون هذه الزيادة.

([2]) حلية الأولياء (3/ 240).

([3]) شعب الإيمان (3/ 263).

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل