من "رأس الرجاء" إلى قطار الصين.. هزائم معارك النقل
16 ربيع الثاني 1438
أمير سعيد

ما أن انسدت طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب في القرن الرابع العشر الميلادي لوقوع معظمها تحت سيطرة التتار حتى غدت القاهرة عاصمة التجارة العالمية في هذا العصر، وبدأت تحتكر تجارة آمنة تمر عبر البحر الأحمر فالقوافل البرية بين البحرين المتوسط والأحمر. هذا الاحتكار الذي كان له أثر بالغ في الرفاه التي عرفت بها مصر خلال تلك الحقبة.

 

لكن هذه الرفاه لازمها ترهل واستكانة ومغالاة متزايدة في رسوم هذا مرور البضائع التي كان أبرزها التوابل التي كانت تصدر من الهند إلى البندقية وجنوة وأرغونة عبر الطرق البحرية. لم يطور سلاطين مصر في دولتهم كثيراً على المستوى الحضاري، كما لم يهتموا بالعلم والدعوة والانبعاث الخارجي، والتأثير الإسلامي على العالم، بل اقتصروا على جانب الجباية والجمارك وتأمين السفن وتجارها، وغالوا في تلك الجمارك ما جعل تلك المغالاة تسهل للأوروبيين المتعصبين بعد سقوط الأندلس مهمتهم في الاستعاضة بطريق "رأس الرجاء الصالح" عن ممر البحرين المتوسط والأحمر الذي صار أكثر كلفة بكثير عن الطريق البحري الأطول! (تذكر المصادر التاريخية أن سعر قنطار الفلفل على سبيل المثال كان يباع في الهند بنحو 3 بندقياً "عملة إمارة البندقية"، وتباع في الاسكندرية بـ80 بندقياً نتاج الجمارك، والنقل، لكنه بعد استخدام رأس الرجاء صار يباع في لشبونة بما بين 20 – 40 بندقياً أي بنصف الثمن على الأكثر، وهذا لا ينفي صليبية الاكتشاف لكن بدا أن المماليك البحرية لم يفعلوا شيئاً يذكر لنشر الإسلام كحضارة ولا الاستعداد وتأمين موانئ التجارة العالمية كعمل استراتيجي لازم).

 

كان أبرز هزائم تلك المرحلة (نهاية القرن الخامس العشر والقرن التالي له) هو خسارة المسلمين لمعارك الممرات والمضايق البحرية، فكانت نقطة تحول تاريخية هائلة.. وتوالت الهزائم.

 

الآن، إذ نطالع أخبار متوالية عن انطلاق مشروع قطار الصين الواصل ما بين سواحل الصين الشرقية إلى مدينة لندن عاصمة بريطانيا (القادمة من الخلف لتجسد مشروعاً امبراطورياً يعود حثيثاً وبتؤدة وتعقل)، وآخر عن طريق الشمال – الجنوب، وثالث عن مشاريع إعادة طريق الحرير التاريخي بتنوعاته، ورابع عن ربط السكك الحديدية بين دولتي فارس في إيران والعراق. أيضاً تختفي أخبار عن مشروع الربط التجاري بين الجزيرة العربية ومصر، ونلمح استمراراً لـ"الفيتو" الصهيوأمريكي على هذا المشروع، والذي سبقه منذ قرن ولم يزل الإصرار الغربي على عدم إعادة خط سكة حديد الحجاز رغم إمكانية إنجازه فنياً على مساره السابق (من أبرز أسباب تعذر إعادته وجود واستمرار النظام النصيري في دمشق)، وتعثر طريق القاهرة جوهانسبرج الإفريقي العملاق، ندرك يقيناً كم تضرب أمتنا في مقتل في كافة معارك الصراع الاستراتيجي الكبرى.

 

ولقد كان لمجرد التفكير بالقاهرة قبل سنوات لإنجاز طريق القاهرة جوهانسبرج، وإحياء قناة السويس على نحو صحيح يجعل منها محطة لوجيستية وتصنيعية عملاقة، وشروع أنقرة في مشاريعها العملاقة للنقل النفطي والغازي أثر بالغ في استهداف نظاميهما؛ فالغرب لا يمزح حين يتعلق الأمر بامتلاك العدو المسلم الحضاري لبعض مفردات القوة، ولو اقتصرت على الصعيد الاقتصادي وحده.

 

هذا الأسبوع، كان الموعد مع محطة جديدة من محطات الهيمنة والإضعاف للممرات والمضايق الواقعة في أملاك دول إسلامية، قطار الصين الذي يحمل في المرة الواحدة نحو 100 حاوية، تمر عبر بلدان مسلمة وغير مسلمة، حتى تصل إلى لندن، المحطة الرئيسة القادمة لتجارة الصين.. تقلل دبي (جبل علي)، والقاهرة من هذا التحول، فالطرق البرية لا يمكنها منافسة الطرق البحرية في نظريهما. وجهة نظر معتبرة، ومن حيث الأرقام هذا صحيح، لكن من قال إن هذا التحول سيتوقف عند هذا الحد؟! لقد كان "الخبراء" في القاهرة يقللون أيضاً من استخدام طريق رأس الرجاء أواخر القرن الخامس العشر، لكن البرتغاليين لم يتوقفوا، هاجموا الهند، كنز التجارة العالمية حينئذ، استولوا على كامل الطريق لاحقاً بما فيه ما نشأ من بعد ذلك بقرون، قناة السويس نفسها، تلك القناة التي بدأ الكيان الصهيوني والصين وبنما وروسيا ينافسونها حتى ينتهون بها بحيرة لصيد الأسماك البحرية!

 

عندما انساح البرتغاليون في البلاد غزاة كان الهنود يحاربون بالرمح والبلطة، وكانت مدافع سفن البرتغاليين تدك الموانئ وتستولي عليها بسهولة؛ فحتام تستمر تلك الموازين المختلة من ساعتئذ حتى لحظة التيه هذه التي نعيش؟!