على عتبات مدرسة الإمام الخطابي (1/ 2)
26 جمادى الأول 1438
د. عمر بن عبد الله المقبل

حين يقدّر لك أن تقرأ لإمامٍ واسع الاطلاع، حسَن التصنيف، رشيقَ العبارة؛ فهذا يعني أنك تعيش في جنةٍ من جِنان الدنيا، وروضةٍ من رياض الأُنْس، وهذا ما أجده مع بعض الأعلام، والأئمة الكبار، ومنهم الإمام الخطابي ـ حمْدُ بن سليمان ـ (388هـ).

ومن تصانيفه الدالة على تبحّره كتابه "غريب الحديث"، والذي يهمّني في هذه الأسطر مقدّمته التي لم تخلُ من عبارات مشرقة، ونصائح غير مباشرة لطالب العلم، أحببتُ أن تشاركوني - معشر القراء الكرام -جمالها وفائدتها.

·       الخطابي والدراسات السابقة:

حين أراد استعراض ما يُسمى اليوم في الحقل الأكاديمي بالـ(دراسات السابقة)؛ أَثنى ثناء عاطراً على مَن سبَقه، وأنصفهم، فقال عن كتاب أبي عبيد القاسم بن سَلاّم: "فإنه قد انتظم بتصنيفه عامةَ ما يُحتاج إلى تفسيره من مشاهير غريب الحديث، فصار كتابُه إماماً لأهل الحديث، به يتذاكرون، وإليه يتحاكمون.

ثم انتهج نهجَه ابنُ قتيبة أبو محمد عبدالله بن مسلم؛ فتتبّع ما أغفله أبو عبيد من ذلك، وألّف فيه كتابًا لم يَألُ أن يبلغ به شأوَ المبرِّز السابق، وبقيتْ بعدهما صُبابة، توليتُ جمعَها وتفسيرها مستعينًا بالله، ومسترسلاً إلى ذلك بحسن هدايتهما، وفضل إرشادهما"ا.هـ.

بعض المصنّفين ومحققيّ الكتب من أهل عصرنا، يظن أنه لا يمكن لكتابه أن يروج إلا أن يَغمط حقَّ مَن سبقه سواء المجيد أو المسيء؛ ليثبت - بزعمه - أن كتابَه أو تحقيقَه هو الأم في بابه، وكأنه يقول بلسان الحال أو المقال:

لا تَذكر الكُتْبَ السوالف عنده *** طلع الصباحُ، فأطفئ القنديلا!

وقد رأيت نماذج من مقدمات هؤلاء يَعجب منها الباحث، فترى بعضَ المحققين ينتقد أشياء على مَن سبقه ثم يقع في مثلها أو أشد! ومن ذلك: أن أحدَهم عابَ النسخةَ التي قبْله بكثرة التصحيفات، فوجدته وقع في ذات ما ذمّ به مَن قبله!

تأمل الفرق َبين طريقة الخطابي في الثناء على من سبقه، واستفادته منهم، وبين طريقة مَن ذكرت.

·       العلم من المحبرة إلى المقبرة:

قال ـ رحمه الله ـ: "مضى عليَّ زمانٌ وأنا أحسب أنه لم يبق في هذا الباب لأحدٍ متكلَّم، وأن الأول لم يَترك للآخر شيئًا...، ثم إنه لما كثُر نظري في الحديث، وطالت مجالستي أهلَه، ووجدتُ فيما يمر بي ويَرِد عليّ منه ألفاظًا غريبة لا أصل لها في الكتابين؛ علمتُ أنّ خلاف ما كنت أذهب إليه من ذلك مذهبًا، وأن وراءه مطلبًا، فصرفت إلى جمعها عنايتي، ولم أزل أتتبع مظانّها، وألتقط آحادَها، وأضم نشرها، وأُلفّق بينها؛ حتى اجتمع منها ما أحب الله أن يوفِّق له، واتسق الكتاب، فصار كنحوٍ مِن كتاب أبي عبيد أو كتاب صاحبه"ا.هـ.

هكذا طالب العلم والعالم؛ لا يفتأ من النظر والبحث، والمطالعة والمراجعة، ومتى ظنّ أنه اكتفى فقد نادى على نفسه بالقصور، وقد سمعتُ ورأيت من شيخنا الإمام ابن باز ـ رحمه الله ـ من ذلك العَجَب، فلا يستنكف أبداً من قول: "لا أعلم"، و: "تحتاج مراجعة"، وسمعتُه وقد نيّف على الثمانين يوصي بالتحضير ومراجعة المسائل قبل إلقاء الدروس، ويُخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك.. وقد قال إمامُه من قبل: مع المحبرة إلى المقبرة([1]).

·       مقاصد التصنيف:

ختم مقدِّمتَه معلِّلاً غرضَه من تصنيفه لهذا الكتاب فقال: "الغرض فيه أن يظهر الحق، وأن يبين الصواب، دون أن يكون القصد به الاعتراض على ماضٍ أو الاعتداد على باق".

لله هذه النفوس! ما أرقى مقاصدَها، وأسمى غاياتها، ولعل هذا الصفاء في النية، والصدق في الغاية من أسباب هذا القبول الذي نشره الله لمصنفات هذا الإمام.. فليست الغايةُ من التصنيف تسويد الأوراق، ولا الغضّ من جهودٍ سبقته ليجعلها سُلماً لظهوره، وإنما "ليظهر الحق"، فهنيئاً لمن جعل هذه الغاية أمام عينيه حين يجرّد قلمَه مِن غِمْده ليكتب ما يكتب. وللحديث صلة إن شاء الله.

_____________________________
([1]) مناقب الإمام أحمد. لابن الجوزي (ص: 37).

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل