في نور آية كريمة.. "ضرب مثل فاستمعوا له"
13 رمضان 1440
أمير سعيد

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" (73) الحج

 

أسلوب يأخذ بالألباب، ومصيخ للآذان، إبهار يستأثر بالأسماع، فلا تجد من سبيل إلا الخضوع لأمر الإله الواحد سبحانه وتعالى: "استمعوا له".

"يا أيها الناس"، خطاب للناس، كل الناس، على أقوال: فمن قائل أنها للمشركين، جرياً على ما غلب في كتاب الله، كما قال الطاهر بن عاشور، "لأنهم المقصود بالرد والزجر وبقرينة قوله إن الذين تدعون على قراءة الجمهور "تدعون" بتاء الخطاب"، أو كما قال أيضاً: " ويجوز أن يكون المراد بـ "الناس" جميع الناس من مسلمين ومشركين. وفي افتتاح السورة بـ "يا أيها الناس" وتنهيتها بمثل ذلك شبه برد العجز على الصدر. ومما يزيده حسنا أن يكون العجز جامعا لما في الصدر وما بعده."، أو قائل أنها للمؤمنين، كما ذكر الألوسي "ناداهم سبحانه ليبين لهم خطأ الكافرين".

واستشكل على البعض أن ما ذكر ليس مثلاً، لكن الرازي تعقب هذا "بأن لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل ما كان كذلك مثلا."، ونقل القرطبي عن الأخفش قوله: "وإنما المعنى ضربوا لي مثلا فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره"، لكن الإمام القرطبي اختار ما قاله النحاس: "المعنى ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم".

وقال أبو حيان الأندلسي: "والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى، ضرب مثلا لما يعبد من دونه أي بين شبها لكم ولمعبودكم."

والضرب تأكيد لقوة المثل وأهمية الاستماع، قال صاحب التحوير والتنوير: "استعير الضرب للقول والذكر تشبيها بوضع الشيء بشدة، أي ألقي إليكم مثل"، وقال البغوي: "ضرب: جعل (...) ومعنى الآية جعل لي شبه، وشبه بي الأوثان، أي: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها"

أما قوله "فاستمعوا له" أي تدبروه حق تدبره؛ لأن نفس السماع لا ينفع ، وإنما ينفع التدبر، ذكره الرازي. والمقصود أنه مثل جدير بأن يتأمل ويتدبر ويعتبر به، حد الإيمان والخضوع له سبحانه وتعالى اعترافاً بالعجز عن مضاهاة خلقه عز وجل.

"إن الذين تدعون" أي من الأوثان والمعبودات والطواغيت عموماً، وكل ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، "لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له"، أي محال أن يفعلوا ومحال أن يجتمعوا أيضاً لهذا، ولو اجتمعوا ما استطاعوا.

و"السلب" هو أخذ  الشيء قهراً، قال ابن منظور: "الاستلاب: الاختلاس"، وفي معنى "وإن يسلبهم الذباب"، قال القرطبي: "قال ابن عباس: "كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه". وقال السدي: كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله. وقد قيل: وإن يسلبهم الذباب شيئا راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لها والوقار معها.

والاستنقاذ أبلغ من الإنقاذ، قال الطاهر بن عاشور: "والاستنقاذ: مبالغة في الإنقاذ مثل الاستحياء والاستجابة."

"ضعف الطالب والمطلوب"، اختلف في معناها المفسرون، قال القرطبي: "قيل: الطالب الآلهة والمطلوب الذباب. وقيل بالعكس. وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه"، وذكر ابن عطية الأندلسي هذه الأقوال وأضاف: "وقالت فرقة: معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته."

أما اختيار الذباب للمثل؛ فقد قال القرطبي: "وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته (...) وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان."

 

وللدكتور زغلول النجار بحث علمي طويل بديع في هذا الخصوص في "أسرار القرآن"، نوجزه فيما يلي:

-    "يسلبهم"، في استخدام التعبير ومضة معجزة لأن الذباب يختلس ما يأخذه من أشربة وأطعمة الناس اختلاسا‏،‏ وينزعها منهم نزعا علي القهر لعجزهم عن مقاومته في أغلب الأحوال‏.‏

-    حركة الذبابة على درجة عالية من التعقيد، بدأ من الاستعداد للطيران والإقلاع والهبوط والطيران والمناورة البارعة، والعضلات المستخدمة: وتتم العملية في 01% من الثانية.

-    سرعة الذبابة تصل إلى 10 كلم/س

-    الأجهزة المستخدمة للرؤية وقياس الأجواء.. الخ تجعل قدرة تجنب المخاطر والإفلات عالية جداً في المناورة.

-    خيوط عيونها العصبية (48 ألف خيط) تعالج أكثر من 100 صورة في الثانية الواحدة.

-    الرؤية في كل الاتجاهات بواسطة عين لا تزيد عن نصف مليمتر.

-    كل ذلك يعين الذبابة علي الانقضاض علي الشراب أو الطعام فتحمل منه بواسطة كل من فمها والزغب الكثيف المتداخل الذي يغطي جسمها ما تحمل ثم تهرب مبتعدة في عملية استلاب حقيقية بمعنييها‏:‏ الاختلاس‏،‏ ونزع الشيء علي القهر‏.‏

-    للذباب نحو 100 ألف نوع.

-    الذبابة المنزلية تتذوق الشراب أو الطعام بمجرد أن تحط عليه‏،‏ وذلك بواسطة خلايا حساسة منتشرة في كل من شفتها وأقدامها فإن راقها سلبت منه ما تستطيع وهربت بسرعة فائقة كما يفعل اللصوص.

-    فإن كان ما سلبته شرابا امتصته بواسطة خرطومها‏,‏ ليصل إلي جهازها الهضمي المزود بالقدرة علي إفراز الخمائر القادرة علي هضمه وتمثيله تمثيلا كاملا في ثوان معدودة‏، وبذلك لا يمكن استنقاذه منها‏.‏

-    أما إذا كان الطعام صلبا فإن الذبابة المنزلية تفرز عليه من بطنها عددا من الإنزيمات والعصائر الهاضمة بالإضافة إلي لعابها‏،‏ وهذه تبدأ في إذابة ما تقع عليه من الطعام الصلب فورا مما يمكن الذبابة من امتصاصه بخرطومها وبأجزاء فمها ذات الطبيعة الإسفنجية‏،‏ ومن ثم لا يمكن استرجاعه أبدا‏،‏ أو استنقاذه بأي حال من الأحوال‏.‏

-    من الثابت علميا أن البشرية كلها عاجزة كل العجز عن خلق خلية حية واحدة في الزمن الراهنـ زمن التقدم العلمي والتقني المذهل وغير المسبوق في تاريخ البشرية كلهـ وهي بالتالي أعجز عن خلق ذبابة واحدة‏، ونحن نعلم اليوم أن جسد الذبابة مكون من ملايين الخلايا المتخصصة‏،‏ الموزعة في أنسجة متخصصة‏،‏ وفي أجهزة متعددة تعمل في توافق تام من أجل حياة هذه الحشرة الصغيرة‏.

-    والطالب في هذه الآية الكريمة هو المسلوب الذي سلبه الذباب شيئا مما هو له‏، والمطلوب هو الذباب السالب‏.‏

-    هذه الحقائق لم يصل إليها علم الإنسان إلا في القرن العشرين،‏ وفي العقود المتأخرة منه،‏ وورودها في كتاب الله بهذه الإشارات الدقيقة‏، المحكمة‏‏ الموجزة لمما يشهد بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏،‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله،‏ وحفظه بعهده.     أ.ه

 

إنه بنهاية الآية، تتجلى لدى كل مكابر الحقيقة، ويبقى التحدي مستمراً يقرع أذن كل كافر جحود عنيد، وينسكب في نفس كل مؤمن مزيد من إيمان إلى إيمانه بعظمة ربه المعبود الأحد الخلاق العظيم، الذي لا يستحق أن يعبد سواه، "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين"