26 محرم 1429

السؤال

السلام عليكم.. أنا متزوج من ثلاثة أشهر، ولا أعرف أين يذهب ما أحصل عليه أنا وزوجتي من مرتب شهري مع أنني أحاسب نفسي على كل درهم أصرفه؛ فبعد عشرة أيام من قبض الراتب لا أجد شيئاً, فماذا أفعل؟!<BR>أفيدوني أفادكم الله.<BR>

أجاب عنها:
إبراهيم الأزرق

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فبارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما على خير ووفقك الله لحسن تدبير جميع شأنك. وأفيدك - أخي الكريم – بأن المشكلة التي تشكو منها مشكلة شائعة يشكو منها كثير من الناس، فما أن ينتصف الشهر حتى يفرغ ما في اليد أو يكاد، فيضطر المرء إلى التقتير على نفسه باقي الشهر، وليس ذلك عن عذر أو فقر، بل المرتب في كثير من الأحيان قد يكون كافياً، خارجاً بصاحبه عن حد الفقر على الأقل. وفي تقديري أن ما يزيد من تفاقم هذه المشكلة إغفال عاملين؛ أحدهما شرعي، والآخر دنيوي عادي يتعلق بالتدبير. أما ما يتعلق بالعامل الشرعي فإن الشريعة قد بينت أن بسط الرزق مناط بأسباب شرعية، فمن حققها فهو موعود بالبركة، ومن أخلفها فقد يبدل الله أمره، ومن لم يكفه الله فلا كافي له، ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب. ومن الأسباب الشرعية للمباركة في الرزق بل جماعها تقوى الله تعالى والإيمان به والاستقامة على شرعه، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96)، وقال سبحانه: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجـن:16)، وفي مقابل ذلك قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (سـبأ:15-17). ثم إن الإيمان والتقوى شُعَبٌ كثيرة، وتفاضل بعضها على بعض في التأثير على الرزق مما دلت عليه الأدلة، ومما ثبت أن له أثراً على رزق ما يلي: • العمل بأحكام الكتاب وإقامة أمره وتحكيمه ولو على نطاق الفرد وهذا يستفاد من قول الله تعالى في أهل الكتاب: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة: من الآية66). • ومن ذلك أيضاً البر والإنفاق؛ صدقةً وزكاةً، قال الله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم: من الآية39)، وقال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: من الآية276)، وقال: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سـبأ: من الآية39)، وقد ثبت في الحديث القدسي عند مسلم قول الله تعالى: "يا ابن آدم أنفق، أنفق عليك"، واتفق الشيخان على حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً". • ومن ذلك أيضاً صلة الرحم، التي قطعها كثير من الناس لأجل الدنيا وكسبها، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه" قال علماؤنا: بسط الرزق: توسيعه وتكثره أو البركة فيه. • ومن ذلك أيضاً التوكل على الله، وهذا من تمام التعلق به وتوحيده، فالمرء يبذل أسباب الرزق، ثم لا يتعلق بها أو بمن جعله الله سبباً لها، بل بمسدي النعمة سبحانه وتعالى، وقد روى الإمام أحمد والترمذي وصححه حديث الفاروق عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً". • ومن ذلك الدعاء والشكر والحمد والثناء والتوبة والاستغفار، فكل هذه مما دلت الأدلة على أثرها في الرزق والمباركة فيه والأدلة على ذلك كثيرة متظاهرة، ومن حقق هذه الأسباب الشرعية كفاه القليل وأغناه، ويشهد لهذا ما نقرؤه في سير بعض السلف، بل وما نراه من حال بعض الصالحين في بقاع وبلاد شتى، وتأمل في الغابر والحاضر وانظر: كم من إنسان عاش سعيداً عزيزاً، يرى أنه في جنة، موفور الجاه والمكانة، كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها مع أن دخله محدود؟ لكن بارك الله له فيه فأغناه حساً وقلباً، فما معه يكفي حاجياته وضرورياته، ثم هو لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس بل قد تأنف نفسه إذا بذل له على وجه غير كريم. أما العامل الثاني من عوامل بسط الرزق والمباركة، أو التنمية والزيادة فيه فهو دنيوي يتعلق بالتدبير، فمن أحسن التدبير جمع الأموال وثمرها مسلماً كان أو كافراً، براً كان أو فاجراً، فهذا سبب قدره الله كوناً كما قدر لكثير من الأشياء أسباباً يحصلها بها باذلوها بمشيئة الله، ولا يحصلونها إن هم تركوها وأغفلوها. والتدبير اليوم علم يدرس، وضعت فيه كتب تتعلق بنواح شتى، وفي بعضها أفكار ورؤى ولفتات قد تكون مفيدة. وقد اعتنى الغربيون بهذا الجانب وأدخلوه ضمن ما يعرف بدورات تطوير الذات التي بدأت تشيع في عالمنا العربي بغثها وسمينها. وقد تأملت بعضها فوجدتها تدور على حسن التخطيط المُختَزِل لتكرار المجهود والمبذول، الموصل للمراد بأيسر السبل وأقلها تكلفة، وكذلك على ترك الفضول وما لا حاجة للناس به. وكثير منّا قد لا يراعي ذلك، مع أن مراعاة التدبير من جملة الأخذ بالأسباب التي أُمِرْنَا أن نأخذ بها ما دامت غير محرمة. ومن جملتها أمور أقتصر على التنبيه على بعضها نظراً لشيوعها في مجتمعاتنا، فمنها: • التبذير، والتبذير تبديد الأموال فيما لا نفع فيه أو بالإسراف في الكماليات، ومع الأسف كثير من الكماليات أصبحت عند كثير منّا ضروريات لا بد منها، وقد نتج عن هذا أن يبذر المرء ويسرف ولا يدري أنه مسرف، والمطلوب أن نقف ونتفكر ونراجع قائمة ما أنفقنا فيه هل كل ما فيها له حاجة حقاً بحيث يحدث فقده ضرراً أو أثراً سيئاً؟ وما كم الكماليات المدرجة في قائمة منفقاتنا؟ وكم تستهلك من الراتب؟ وهل هذه النسبة معقولة أم لابد من اتخاذ قرار صارم فيها؟ • ومنها الدخول في التزامات قبل أوانها أو عدم برمجتها والتفكير فيها بصورة جيدة، فترهق الظهر، وتبدد الأموال، مع أن إعادة برمجتها كفيلة بحفظ المال، وتلبية الحاجيات، بل والزيادة والنمو، ولكن بالتدرج شيئاً فشيئاً. ومن أمثلة ذلك: أن يسعى المرء إلى تحصيل مسكن حسن، وسيارة جيدة، وسم ما شئت من حاجيات العصر، بل وضرورياته، التي يحق له بل ينبغي أن يسعى في تحصيلها، لكن يقع الإشكال عندما لا يحسن برمجتها، فيدخل في التزامات تقسيط تستنزفه، وتجعل راتبه الضخم هباءً منثوراً، مع أنه كان يسعه أن يبرمج أهدافه فيقدم بعض حاجياته ويؤخر بعضها، مكتفياً بما يسدد مسدها مؤقتاً. فمثلاً إن كانت قيمة الإيجار الذي يليق به طوال مدة تقسيط البيت، تقل عن فائدة التقسيط (الزيادة الناجمة في السعر لأجل التقسيط)، فمن الحكمة أن ينظر سكناً متواضعاً يليق به يستأجره ريثما يجمع ما يكفل له بناءً أو شراءً دفعةً واحدة. وقل مثل ذلك في السيارة قد يكون الاكتفاء بسيارة مستعملة تناسبه خيراً من الإقدام على شراء السيارة التي يطمح إليها بالتقسيط... وهكذا، وقد يكون العكس هو الصحيح. ثم عليه أن ينظر ليعلم أيهما الأولى بالبدء فيه مشروع تقسيط منزل –إن كان التقسيط خياراً مناسباً- أو السيارة –إن كان خيار تقسيطها مناسباً كذلك- وفقاً لما يستفيد زيادة وفر بتأخيره أكثر لا وفقاً لمجرد الهوى، فعليه أن يفاضل ما الذي يقدم وما الذي يؤخر بحسب طاقته، ومن لم يخطط ويحسن التدبير قد يغفل هذه المفاضلة فيغبن ويبدد بعض المال الذي كان له أن يستفيد منه، وأسوأ من هذا حالاً من يدخل في عدة مشاريع كهذه دفعة واحدة دون أن يقدر طاقته، فيعيش معيشة ضنكاً قد أجبر نفسه على الدخول فيها. • وأخيراً من الإشكالات عند كثير منا عدم وجود رؤية واضحة للحاجيات والكماليات المناسب اقتناؤها، ووجود الهدف الشرائي والرؤية الواضحة تجعل المرء يعرف ماذا يأخذ وماذا يذر ولا سيما في هذا العصر الذي تفنن أهل التسويق فيه في عرض السلع وترويجها، فمن لم تكن له رؤية شرائية يقع أسير الدعاية وأسير هواه فكلما اشتهى اشترى، بخلاف الآخر فهو يبرمج حاجياته وشهوته وفقاً لما تقتضيه مصلحته. هذا والحديث في هذا المجال رحب واسع، وحاصله أن من أخذ بأسباب الرزق وتنمية المال الشرعية والدنيوية بارك الله له فيما أتاه وأغناه. والمهم بعد ذلك وقبله أن يتذكر السؤال الذي سوف يعرض عليه يوم القيامة: من أين اكتسبت هذا المال؟ وفيم أنفقته؟ أسأل الله أن يبارك لي ولك، وأن يرزقنا حسن التدبير والأخذ بأسباب سعادة الدارين، ودمت موفقاً مسدداً.