صور التعذيب... ألا يمكن استغلال الفرصة
16 ربيع الأول 1425

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وبعد:<BR>قد تفننت الجرائد في كثير من الدول الأوربية، وقليل من الجرائد العربية، في استعمال الكلمات والجمل البليغة التي سيستقيظ العالم ليقرأها صبيحة يوم الجمعة المنصرم، معبرة عن الإجرام الأنجلو-أمريكي، لكن تلك العبارات لم تكن ببلاغة تلك الصور المرعبة والمهينة التي تظهر طرفًا من ألوان التعذيب الفظيع الذي يتعرض لها السجناء العراقيون في سجون أبو غريب.<BR>ما يعنينا في هذه القصاصة بالدرجة الأولى هو البحث عن وسائل إيجابية لاستغلال تناول الإعلام العالمي للجرائم الأمريكية بدرجة من الوضوح الذي قارب الفضيحة، بدلاً من العمل بمبدأ "جلد الضحية"، فقد فضحت تلك الصور التي تبرز بعض السجناء العراقيين عراة، في أوضاع مخزية ومهينة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى ... <BR>وفي سابقة فريدة، تنشر وسائل الإعلام الغربية، لا سيما البريطانية الحليف الأول للولايات المتحدة منها هذه الصور على صفحاتها الأولى - دع عنك الديلي ميرور؛ لأنها لا تصنف ضمن صحف الطبقة المثقفة، لكن عليك بما صنعته الغارديان، صحيفة النخبة - لست أدري ما القصد منها، هل هو استعطاف الرأي العام على أولئك الضحايا، هذا طبعًا من المستبعد جدًا، أو التشفي من الولايات المتحدة الأمريكية، قد يكون هذا سببًا، وربما يكون القصد مجرد السبق الصحفي، لكن مهما يكن من شيء، فإن هذه السابقة لها دلالاتها القوية، والتي تجعلني أعبر بأنها فرصة ذهبية نادرة، لا بد من العمل على الاستفادة منها واستغلالها بشتى الطرق:<BR>1- إنها تعني أن العالم أصبح أكثر جرأة عن إبرازه السخط والحنق، وكذا النقد اللاذع لكل ما هو أمريكي، لمجرد أنه أمريكي، فهاهي أمريكا التي تنادي بالمثل، والعدالة، تظهر على حقيقتها المرعبة والقذرة في آن واحد، وهذه نقلة نوعية في الاتجاه المضاد للهيمنة الأمريكية، لا سيما الهيمنة الفكرية تحت الإرهاب بالإرهاب.<BR>2- يبدو أن العالم الغربي دخل في مرحلة الشيخوخة، أو بدا مستعدًا لأن يكون الرجل المريض، واقرأ إن شئت كتاب (موت الغرب) لمؤلفه باتريك جيه بوكانان، بل تأمل ما قاله فوكوياما عن نهاية التاريخ، وانهيار القيم الغربية، وعلى كل حال فمن أهم مظاهر هذه الشيخوخة، فقدان الثقة بالقيم والمثل التي كان الغربييون، بشتى أطيافهم يتمسكون بها، فحينما يقارن الغربي العاقل - وهم موجودون- بين ممارسات دولته، التي كان يفتخر بمثلها، وبين ممارسات ما يسمى بالعالم الثالث، ثم لا يرى الفرق، تضطرب في داخله كل عوامل الشعور بالفخر والاعتزاز، بل والمحافظة على قيمه.<BR>مثل هذه الحوادث وغيرها، لا سيما إن أحسن المسلمون استغلالها، تخرج الغربي من الأجواء والقيم الحالمة التي كان يسبح في أجوائها، ويكتسب ثقته بنفسه، ودفاعه عن وطنه، وانتمائه، ويعتز بها؛ تخرجه إلى صحراء من التيه الفكري، والانتمائي، والقيمي، التي تجعله بعد مدة من الزمن فريسة سهلة، لشتى الأيدولوجيات، التي لم يبق منها شيء غير الإسلام.<BR>3- هذه الفضيحة الإعلامية، ستربك صناع القرار في الدولتين الأمريكية والبريطانية، وستزيد من الثقل والأحمال التي تنوء بها أكتافهم، -نسأل الله أن يهلكها- فالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً قد فتحت على نفسها جبهات عدة، عسكرية، وها هي الآن تفتح عليها جبهات إعلامية عدة، فلا شك أن تلك الصور تمثل هزيمة –ولو محدودة الزمان والتأثير- إعلامية تفتح عليها أنواعًا من الهزائم الأخرى، تتسع رقعتها كلما كثرت تلك الهزائم أو الإخفاقات الصغيرة.<BR>4- يا قوم: هذه أمريكا تترنح الآن، إي والله تترنح، لكنها لن تسقط إلا إذا استمرت الضربات القوية المتلاحقة عليها في هذا الوقت، قبل أن تستعيد عافيتها، وإذا ما فوتنا هذه الفرصة –أعني ترنحها- فإنها ستستعيد عافيتها، وعندئذ نرجع إلى نقطة البدء في هذه الصراع الطويل، وستضيع كل التضحيات التي بذلتها شعوبنا في المشرق والمغرب هباء منثورا.<BR>5- السقوط المريع للمثل والقيم الأمريكية المدعاة، لا سيما في أعين الانهزاميين والمستغربين من أبناء جلدتنا، مقدمة للانتفاضة فكرية على التبعية الأمريكية، سيتلو هذه المقدمة فصول أخرى من رحلة الصراع بين الحق المسلم، والباطل النصراني الأمريكي، لكننا بحاجة إلى استثمار مثل هذه الحوادث؛ لتكريس ظاهرة السقوط، أو التسريع من عجلتها.<BR>6- ثمة طرق يمكن أن يستغلها العلماء والمصلحون، لدفع الأمريكان نحو مزيد من الهاوية، هذه الطرق لابد من الاستفادة منها سواء دعمت من قبل الأنظمة العربية أم لا، فلا شك أن هذه الصور ستتيح مساحة واسعة لخطباء الجمعة، لنقد السياسة والثقافة الأمريكيتين، ولن تستطيع الرقابة العربية إخماد هذا الصوت، بل ربما أذنت له صراحة للحديث عن هذه القضية، هذا النقد مهم جدًا حسب كل المعايير، لكنا لا بد من توجيه هذا النقد ليكون نقدًا عقائديًا، واقعيًا، سياسيًا، فننجح من جهة في دمج العقيدة بالسياسة بالواقع، وهذا مكسب مهم بالنظر إلى صورة الإسلام المشوه التي حاولت بعض الأنظمة العربية فرضها، ومن جهة أخرى ننجح في تكريس حالة الفصام بين الثقافة العربية من جانب، والثقافة الغربية النصرانية من جانب، وليت العلماء والدعاة يحسنون المراوغة الشرعية للوصول إلى هذا الهدف حتى في أكثر البلاد تكميماً للأفواه وتبعية للغرب.<BR>7- هذه الصور، لا شك أنها ستمنح المقاومة العراقية بكل فصائلها واتجاهاتها شحنات من الغضب العارم، ورغبة الانتقام والدعوة له، لكن لا بد أن تستثمر هذه الاندفاعات العاطفية لتحويلها إلى عقيدة محورها بغض أعداء الله، الذين يعادون كل ما هو إسلامي، ومزيد من زعزعة الثقة بالنظم الغربية الآخذة في التوسع تجاه كل ما هو أمريكي أو غربي، وهذا هو الشرارة الأولى نحو التحرر العسكري والسياسي.<BR>8- ويتبع ذلك أن هذه الصور، ستثير الشعب العراقي كله، الأمر الذي يوفر لحركات المقاومة، أرضاً صلبة ودعماً "لوجستياً" تقف عليه، كما أنها ستمنح المقاومة مخزوناً استراتيجياً من القوى البشرية المهيئة معنويًا للالتحاق بركب المقاومة، فلا بد من استغلال هذه العوامل التي أفرزتها الطبيعة البشرية، لكسب أكبر مخزون استراتيجي بشري وفي أسرع وقت.<BR>9- لا بد من اقتناص الفرصة أمام الرأي العام لا سيما في العالم الغربي، فقد كتبت إحدى الصحف البريطانية يوم السبت الماضي بالخط العريض الموضوع على صورة الجندي الذي يتبول على السجين العراقي، وربطت بينها وبين حادثة قتل البريطاني التي تمت في مدينة ينبع السعودية، قائلة: بأننا بدأنا ندفع ثمن هذا التصرف في الشرق الأوسط، فهذه فرصة ذهبية حيث يمكن تبرير دوافع العداء ضد الغربيين من قبل قطاعات كبيرة من المسلمين، بالرغبة في الانتقام، والتي هي من طبائع البشر، ولذا أقرتها الشريعة في حدود معينة "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" (البقرة: من الآية194)، وعندئذ –والخطاب موجهة للقارئ الغربي- فلا يمكن إلقاء اللوم على جانب واحد من المعادلة، وهذا الأسلوب يفهمه القارئ الغربي مع ما فيه من الملاحظة. <BR>10- وهناك فرصة للناشطين المسلمين من القاطنين في بلاد الكفار ذات النظام الديموقراطي، أعني بلاد الغرب، فمجال تأسيس جمعيات حقوقية لرعاية الحقوق، وللرقابة على الدولة مفتوح ولو بشيء من التضييق، فلما لا نشاهد مثلاً إنشاء جمعيات طوعية لحماية حقوق الأقليات، وجمعيات مراقبة الجيش، أو جمعيات الدفاع عن من هم تحت الاحتلال، أو جمعيات للرقابة العامة ... أو لنقل جمعية الأسير العراقي، أو نحو ذلك، لم يكن بعض النصارى أكثر نشاطًا من المسلمين في اغتنام مثل هذه الفرص، فهناك جمعية السلام الأخضر، وجمعية حماية البيئة ...<BR>11- وأخيراً لنتخيل قليلاً أن هذه الصور لبعض اليهود، ترى كيف سيستغلها الصهاينة؟<BR>ستتداعى القوى الصهيونية العالمية، لجعل هذا اليوم يوم تعذيب السامية العالمي، وتصاغ رواية هولوكوست جديدة، وستطالب العالم بتعويضات عن الأضرار المالية والمعنوية الناجمة عن عرض تلك الصور على العالم- مع أنها هي التي ساهمت في عرضها، وستنادي بحماية أكثر لحقوق الأقليات اليهودية في العالم، وربما نظمت المسابقات الخطابية، والكتابية، والتشكيلية، وغيرها للتعبير عن السخط العالمي عن ما يحدث للطائفة اليهودية المستضعفة في العالم, ولتداعت تلك القوى كذلك مطالبة المجتمع الدولي بإلزام رئيس كل دولة بالاعتذار والأسف لذلك التعذيب التي تتعرض له الجاليات اليهودية في العالم كله ... <BR>لست أدري لم لا أستطيع مغادرة الكتابة دون أن أعرج لا بل دون أن "أحتقر شاتمًا" تلك الفئة التي قاربت حد الردة عن دين الإسلام، أو ربما تكون قد ارتدت بالفعل -والذي يحملني على التردد أن وصم الردة بقدر ما هو مهم، إلا أنه خطير جداً-، يوم أن صرح أحدهم "أحد أعضاء مجلس الحكم" مدافعاً عن تلك الصور، بأنه لا مقارنة بينها وبين ما كان يفعله نظام صدام حسين، فكأنه يقول: وعليه فالأمريكان أرحم، وأفضل لنا، وآخر سياسي مفكر في لقاء مع القناة الرابعة للإذاعة البريطانية التي تبث باللغة الإنجليزية – يعني هو يخاطب أسياده الإنجليز وليس العرب-: بأن هذا وأكثر يحدث دوماً في السجون العربية، لكن الفرق أن الديموقراطية الغربية تتحدث عن هذا، بينما لا تتحدث الأنظمة الديكتاتورية العربية عنه، أي ولاء أكبر من هذا الولاء لأعداء الله "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51).<BR><br>