المصداقية الأمريكية ..التضحية بما بقي !
10 رمضان 1425

إذا لم تكن التوقعات واستطلاعات الرأي قد حسمت أمرها حول الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الثاني من نوفمبر المقبل، (الرئيس الأمريكي الحالي) جورج بوش أو منافسه جون كيري، إلا أن المؤشرات تدل على أن الفائز الواضح والأكيد في هذه الانتخابات هي (إسرائيل)، التي ستحظى باستمرار الدعم والمساندة غير المحدودين من سيد البيت الأبيض المقبل، وهي المسألة الوحيدة على الأقل التي تحظى بإجماع المرشحين.<BR><BR>وإذا كان خطب ود الدولة العبرية ظاهرة تتكرر في انتخابات الرئاسة الأميركية منذ عقود طويلة، باعتبار أنها قاعدة متقدمة للمصالح الأمريكية، وأن حمايتها وضمان تفوقها على الدول العربية مجتمعة عقيدة راسخة في عقلية الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إلا أن درجة التضحية بما تبقى من المصداقية الأمريكية والهوس في البحث عن أي قشة يمكن التعلق بها في الانتخابات الرئاسية المقبلة أمر لم تشهده منافسات البيت الأبيض السابقة.<BR><BR>وبعد أن دخلت السياسة الأمريكية مرحلة متقدمة من التخبط وانعدام الرؤيا في المنطقة العربية، سواء أمام ضربات المقاومة العراقية، والإحراج الشديد في سياستها العامة في الداخل، لم يكن مستغرباً أن تحاول الإدارة الأمريكية الحالية استقطاب أصوات الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة لإعادة انتخاب الرئيس بوش.<BR><BR>وبصورة لافتة هذه المرة ذهب الرئيس بوش إلى حد توقيع قانون جديد سمي بـ" قانون مراقبة انتقاد اليهود العالمي "، يلزم وزارة الخارجية الأمريكية بإنشاء مكتب خاص لمراقب الأعمال المعادية لليهود تحت مسمى معاداة السامية في العالم، وإعداد تقارير سنوية تصنف فيه الدول وفقاً لمعاملتها لليهود، وتوثق فيه حوادث العنف الجسدي ضد ممتلكاتهم ومدافنهم وأماكن عبادتهم بالخارج، وكذلك رد فعل الحكومة المحلية عليها، وتسجيل نماذج من الدعاية المناهضة لليهود، ومدى استعداد الدول لتطبيق مناهج دراسية غير منحازة، وهذا ما يجعلها مشكلة من مشكلات حقوق الإنسان والحرية الدينية التي توجهها الإدارة الأمريكية كيف شاءت، فلم يجري في التاريخ أن أقدمت دولة على تخصيص جماعة دينية بقانون عالمي لحمياتها ورعايتها.<BR><BR>وقد وافق الكونجرس الأمريكي على هذا القانون الذي تقدم به (عضو الكونجرس) توم لانتوس، المشهور بعدائه للعرب، بشكل شبه جماعي، صاحبه قيام قادة المنظمات الصهيونية بممارسة ضغوط كبيرة في الكونجرس والخارجية لتمرير هذا القانون.<BR><BR>وما لم يعد خافياً، أن الولايات المتحدة تطبق العديد من الإجراءات الخارجية لغرض حماية اليهود، فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية التي ترددت في قبول القانون أن تقريرها السنوي حول الحريات الدينية وحقوق الإنسان في العالم يفرد أجزاء كبيرة منه لرصد الانتقادات الموجهة لليهود، وقال ريتشارد باوتشر (المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية): "لقد كنا نشعر دوماً أن مسألة معاداة السامية ذات أهمية بالنسبة لنا، حيث كنا نشطين في هذا الصدد، كما غطينا هذا الأمر ضمن أعمالنا والتقارير التي أعددناها".<BR><BR>وأصدرت في بداية العام الحالي تعليمات للسفارات الأمريكية حول العالم بأن تنشط في تتبع ووصف أي أفعال أو انتقادات ضد اليهود أو مؤسساتهم ، كما سعت الخارجية الأمريكية إلى إقناع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا برعاية مؤتمرين لمناقشة انتقادات اليهود، إحداها عقد في فيينا في يونيو 2003م، والآخر في برلين في أبريل 2004م، وحضره (وزير الخارجية) كولن باول والوفد الأميركي في برلين، وكان من نتائج المؤتمرين أن قررت المنظمة أن تراقب وتصدر تقارير تحصي مسألة الانتقاد لليهود. وتقول واشنطن: إنها تدعم بقوة انعقاد مؤتمر آخر في أسبانيا لمراجعة تنفيذ توصيات فيينا وبرلين.<BR><BR>ولا يستغرب من كل ذلك، فالولايات المتحدة تتزعم ما يعرف بـ " المجموعة الدولية لتعليم وتذكر وأبحاث الهولوكوست"، وهي مجموعة مكونة من 18 دولة تتبنى الترويج لما حدث لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية كوسيلة لمنع تكرارها، كما أنها تشجع تنفيذ الأبحاث والدروس والكتابة في هذا المجال، وتقول الوزارة: إنها عملت أيضاً على إضافة نصوص كثيرة متعلقة بمواجهة انتقاد اليهود في بيانات مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ، وبالتالي أخذت الخارجية الأمريكية على نفسها الاستمرار في فعل الشيء ذاته في المستقبل.<BR><BR>وبأسلوب التهديد والوعيد قال الرئيس بوش، مطمئناً الناخبين اليهود من الأميركيين: " سنعمل بطريقة لا تمكن معها الأفكار القديمة المعادية للسامية من إيجاد وطن لها في العالم المعاصر". مثل هذا القول يحمل في مضمونه أن الولايات المتحدة عازمة على محاسبة من ينتقد (إسرائيل)، سواء على الصعيد السياسي أو الإعلامي. <BR><BR>الإدارة الأمريكية التي سجلت انحيازاً كاملاً للسياسة الشارونية، وسارعت بغزو العراق بتهم كاذبة، تحاول الآن تجهيز وإعداد "اتهامات" جديدة للدول العربية والإسلامية وأجهزتها ومؤسساتها، وهي ابتزاز تحت شعار 'معاداة السامية' تثنيها عن التدخل أو إبداء رأيه فيما يخص معاناة الفلسطينيين، ويفهم من هذا أن واشنطن قد تصيغ قائمة سوداء على غرار القوائم التي تشكلها في تقارير حقوق الإنسان والحريات الدينية لتضم كل من يتطاول على العدوان الإسرائيلي بالنقد والتجريح، ففي كل عام سيصدر تقرير يتعلق بالدول والمنظمات والأفراد الذين انتقدوا اليهود، وبمعنى أدق سيصبح هذا التقرير أداة جديدة بيد واشنطن يمكن أن تستخدمها في حال سعت إلى التهيئة لشن عدوان جديد ضد أي دولة أو أن تضع يدها على أفراد أو أن تغلق مؤسسات إعلامية وبحثية مثلا بحجج تصب في معاداة الصهيونية.<BR><BR>القانون يرفع انتقاد اليهود أو (إسرائيل) إلى درجة التحريم، ويترك تحديد العقوبة للحامي الأمريكي ، ومكمن الخطورة أنه يجعل معاداة اليهود مرادفاً لانتهاك حقوق الإنسان، وأيضاً لشعار الحرب على الإرهاب وفق المفهوم المشترك للولايات المتحدة و"إسرائيل" لتطلقه في وجه كل من يتخذ موقفاً مناهضا للسياسات الإسرائيلية العدوانية، وهذا ما أكد عليه الرئيس بوش بتصريحه على " أن الدفاع عن الحرية يعني أيضاً مهاجمة الشر الذي تجسده معاداة السامية"، موضحاً أن القانون الجديد سيسمح بوضع لائحة بجميع الأعمال المعادية للسامية في العالم ولائحة بعمليات الرد الواجبة على هذه الأعمال.<BR><BR>وهذا المنحى في التعامل مع هذه القضية المثيرة للجدل يثير الغرابة، فإذا كان الفيتو سلاحاً أمريكياً يشرع كدرع واق يحمي (إسرائيل) ضد أي قرار ينتقد أو يدين عدوانها على الشعب الفلسطيني في مجلس الأمن الدولي، فقد ابتدعت واشنطن آلية أكثر حنكة وتمتد إلى فضاءات واسعة في العالم أي عالمي التناول والتأثير تطال إخراس الألسنة وتكميم الأفواه.<BR><BR>الواقع أن الأوروبيين أيضاً هم أكثر من يعاني من نتائج المعادلة الغريبة التي تندمج عناصرها كالآتي : العداء للصهيونية = العداء لـ(إسرائيل) = العداء للعنصرية = العداء للسامية، بحيث أصبحت سيفاً سياسياً مسلطاً دائماً على رقاب الجميع، وكل فعل لا يناسب مصلحة (إسرائيل) يعرض صاحبه للإدانة الفورية والمباشرة، وربما ما هو أكثر من ذلك، ورغم أن الدور الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي فيما يخص تسوية القضية الفلسطينية، خف فاعليته مؤخراً على نحو يكاد يجعله معنوياً فقط ، لكن (إسرائيل) مستغلة هذا القانون ستطلب بما هو أكثر من ذلك، أي انحيازاً أوروبياً لمصلحتها يوازي الانحياز الأمريكي، لثني الاتحاد الأوروبي عن مواصلة تحمل مسؤولياته الدولية والإنسانية، تجاه معاناة الشعب الفلسطيني، بحيث تخلو الساحة الدولية تماماً للولايات المتحدة ولمشروعاتها الإمبراطورية، وحتى لا يبقى ثمة من يلجأ إليه الفلسطينيون والعرب فيرضخون للأمر الواقع، ويعلنون استسلاماً كاملاً وشاملاً.<BR><br>