الغياب القسري للرئيس عرفات..
21 رمضان 1425

طرح مرض الرئيس ياسر عرفات ومغادرته مبنى المقاطعة في مدينة رام الله ، للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات تقريباً، سيناريوهات وتكهنات مختلفة لطبيعة المرحلة القادمة في الأراضي الفلسطينية، وشكل التحالفات المنتظرة وماهية التوازنات بين القوى السياسية .<BR><BR> وبمعنى أشمل غياب عرفات فتح مجدداً ملف الخلافة السياسية على رأس الهرم الفلسطيني، لتصل عند البعض إلى حالة أزمة حقيقية قد لا تسمح بظهور حامل الراية المحتمل أو خلفاء سياسيين كبدائل للحكم، وحمى وطيس التكهنات التي تنطلق من كل صوب لتقدم توقعاتها وتنبؤاتها لما أصبح يعرف بـ" مرحلة ما بعد عرفات " سيما وأن هذا الأمر أكثر ما يروق لدولة الاحتلال الإسرائيلية وما تروج له، فتارة تشيع فكرة التفتت والانقسام والتشتت وحالة من الفوضى تنتظر الشعب الفلسطيني، وتارة أخرى تروج أنه لا يوجد خلفاء لعرفات، وأن الهالة الكارزمية المحيطة به تجعل أي مخرج للمعضلة حلاً مؤقتاً لا يكاد يذهب حتى تدب الخلافات والنزاعات لإعادة توزيع السلطة والثروة في حالة صعود وهبوط بين المتنافسين، خصوصاً وأن هذا المرض المفاجئ يأتي في ظل ظروف سياسية واقتصادية معقدة تواجه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.<BR><BR> أزمة خلافة عرفات التي تطرح بقوة حالياً هي ذات الحالة والمعضلة التي أخذت تتكرر مع بعض أنظمة الحكم العربية، فقادة هذه الأنظمة الذين طال بهم أمد الحكم لم يرغبوا بتحضير أو توفير فرصة لظهور من يخلفهم، وعمدوا إلى إخراج الأمر عن سياق التطور الطبيعي للحياة السياسية ، فبادروا وبصورة منهجية إلى تغييب طرح الموضوع ، الأمر الذي أوقع الأنظمة في حالة تأزم كبيرة بعد غياب زعيمها بالرغم من أن الأنظمة والقوانين في هذه الدول تظهر آلية انتقال السلطة أو تسلم المقعد الرئاسي، لتنصرف الأنظار حينئذ إلى تغليب خيارات ضعيفة الرؤية ومفروضة من القمة.<BR><BR>و الحالة الفلسطينية، لا تخرج من هذه العباءة، فإن الأمر يتعلق بأدوار الأطراف السياسية الفاعلة داخلياً، سواء تعلق الأمر بتنظيم حركة فتح أو داخل الفصائل الفلسطينية المنافسة أو حتى الأجهزة الأمنية التي يتنازع بعض رؤسائها على السلطة بحسب ما ظهر في أكثر من حادثة وموقف.<BR><BR>ما يبدو ظاهراً لأعين المراقبين أن حالة التخبط التي تعتمل داخل السلطة الوطنية الفلسطينية عموماً وما آل إليه الطرح النضالي في الحركة الوطنية الفلسطينية بالأساس (سيما في مرحلة ما بعد أوسلو) من غياب للبرنامج السياسي الواضح والرصين، ما هي إلا انعكاس صادق لحالة تمركز القوة والسلطة في شخص واحد، واعتباره اللاعب الأوحد في الساحة الفلسطينية ينفذ ما يقتنع به، وهي الحالة التي امتد تأثيرها لتشمل ساحة العمل الفلسطيني بمجموعها، باستثناء حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي تحديداً، فأصبحت مثلاً التنظيمات والفصائل التنظيمية المختلفة امتداداً للأسلوب والتبعية بصرف النظر عن خلفية التنظيم. <BR><BR>تماسك الهيكل المؤسسي والبنية التنظيمية لحركة فتح ، التي تتوافق قرارتها مع السلطة، ويرتبط رجالاتها بمؤسساتها، والتي يراهن عليها حالياً، هو صورة تنعكس للمراقب الخارجي فحسب، ولكنها في حقيقة الأمر أجنحة وتيارات متنازعة ليست المغانم هي نقطة الخلاف الوحيدة فيها، فهي تختلف أيضاً على النهج الذي يجب الخوض فيه للتعاطي مع القضية الفلسطينية، وعلى الأسلوب القويم الذي يجب تطبيقه لحل مشاكل الحركة، وبناء على هذا التوصيف فإن فتح معرضة للانقسام بشكل كبير، وربما هناك من ينتظر فرصة غياب عرفات عن المسرح، سواء بسبب العوامل الطبيعية أو غيرها للبدء بهذه المرحلة . <BR><BR>فرغم الأصوات الكثيرة المنادية بالتغيير وضرورة تفعيل المؤسسات، إلا أن هذه الأصوات موزعة بين طامع بالسلطة وحريص على مسيرة المقاومة، وحتى الإصلاحات المرجوة فيها ستبقى شكلية في أغلب التقديرات ولن تصل للنقاط الجوهرية، وهو ما يرشح تفاقمها في حال استفحال الأزمة وتأكد غياب عرفات لصالح محاور مختلفة أو انزواء البعض أو التحاق آخرين بركب الآخرين.<BR><BR>ولا شك أن معانات السلطة الفلسطينية وتفاعل تجاذباتها بدأت فعلياً بعد أن نسيت مهمتها لتحرير الأرض وانسلخت عن هذا الهدف الأسمى لجميع المقاومين لصالح البناء الوطني الذي أفرغته من مضمونه، بحيث أصبح الصراع على المكاسب هو الأساس مما جعلها في حالة خواء أيديولوجي زاد عليها غياب عنصر التغير والتكيف على مستوى النخبة السياسية، وما أفرزته أزمة الانتقال إلى مرحلة السلطة من توزع جديد للثروة والنفوذ والتضارب مع احتفاظ مؤسسة الرئاسة باحتكار كامل للقرار.<BR><BR>والحقيقة أن المعضلة الفعلية التي يواجهها الفلسطينيين، أمام غياب الرمزية الفلسطينية والتي يخف بريقها نتيجة النقد الحاد الذي يوجه بسبب تراجعاتها السياسية أو بسبب عدم قدرته على توزيع المغانم بصورة ترضي أوسع شريحة ممكنة، هو الفساد المتهم به غالبية من يطالب بالإصلاح ، والذي أصبح معادلة مجزية للوصول إلى السلطة عبر التلاعب بالشعب الفلسطيني في إطار التنافس على النفوذ والصلاحيات والسلطة.<BR><BR>الأزمات المتتالية التي حدثت في الضفة الغربية وقطاع غزة من الاعتداء على مقر الاستخبارات العسكرية والشرطة الفلسطينية في غزة، وإطلاق النار على عدد من المسؤولين والإعلاميين، وعمليات اختطاف لمسؤولين، وأيضاً التنديد بأعضاء اللجنة المركزية في الحركة، وما صاحبه من خلاف السيطرة على الأجهزة الأمنية، كلها طالت قيادات تعرف بالتاريخية وهزت صورة الرئيس عرفات، الذي أضطر على الموافقة على أي معالجة مؤقتة لاستعادة سيطرته، وجرى ترحيل المسألة إلى حين، تطرح تساؤلاً مشروعاً في ظل العجز الواضح للبنية السياسية الفلسطينية عن تشييد نظاماً سياسياً حقيقياً، أو أن تقدم مصالح شعبها وحقوقه وبناء مؤسساته المدنية على الاعتبارات الشخصية وما هو أهم وفوق ذلك، المصير الذي آل إليه الشعب الفلسطيني نفسه، وتأثير كل ذلك على المقاومة الفلسطينية.<BR><BR>وما هو مطروح بقوة هو أن تحدد البوصلة الوطنية الفلسطينية رؤاها وإعادة صياغة جديدة لها تأخذ بالاعتبار المعطيات والتطورات التي شهدها المسار الفلسطيني، ووجود مثل هذه القراءة أصبح الآن أكثر من ضرورة وطنية، بل شرطاً فلسطينياً لتفويت الفرصة تلو الأخرى لإسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، للتلاعب بالمصير الفلسطيني وفق ما تريد، فأي مقدار من التراجع في زخم الشرعية الفلسطينية والخضوع لسياسة تحطيمها وإضعاف أية قيادة جماعية محتملة وفرض اشتراطات على السلطة لتصفية المقاومة هو الذي سيوفر لإسرائيل أن تقوم بالخطوة تلو الأخرى ومن طرف واحد لفرض الأمر الواقع.<BR><br>