نتائج الانتخابات البريطانية: فشل جديد للديمقراطية، ولكن...
13 ربيع الثاني 1426

ليل انتخابي هادئ في لندن، عاصمة حرية الكلمة، ومركز ثقل الناخبين البريطانيين... الساعة تقترب من العاشرة ليلاً، لكن الوقت - على خلاف عادة المدينة في أيام العمل - ليس متأخراً جداً لنوعين من الناس، أولهما الناخبون البريطانيون، فمراكز الاقتراع تغلق أبوابها الساعة العاشرة ليلاً، والنوع الثاني من الناس: هم المسلمون الذين أنهوا للتو صلاة المغرب، ويستعدون لصلاة العشاء، فنهار الصيف الطويل في بلاد الضباب تغيب معه الشمس قبيل الساعة التاسعة مساء.<BR><BR>ليس من العادة أن يطرق عليك أحد الباب في هذه الساعة المتأخرة –عرفًا-، لكنها ساعة الحسم للقوم، وإذا بأحد مؤيدي حزب العمال يطرق الباب سائلاً: هل انتخب صاحب هذا البيت؟ فأجبته بأنّ صاحب هذا البيت واسمه محمد لا يرغب في انتخاب حزب العمال، وكنت قد خرجت لاستقبال الطارق مرتديا "ثوبا – بحسب لهجة أهل الخليج، وقميص طويل بلهجة أهل المغرب، وهو الأصح لغة-"، المهم أجابني الطارق وقد أوحى له اسم صاحب المنزل مقرونًا بهذا اللباس العربي معرفة سبب عدم رغبة صاحب البيت في التصويت لحزب العمال، هذا إن صوّت أصلا لأحد الأحزاب..فأجاب ببداهة المتابع للأجواء الانتخابية: من أجل العراق؟ فقلت: نعم، من أجل موضوع العراق، قال: أوافقك على ذلك، الأمر محزن، وأنا كنت سأترك الحزب لأجل ذلك، وتظاهرت ضد الحرب على العراق، ثم تابع قائلاً وبالمناسبة فإن عضو البرلمان الجديد الخاص بالمنطقة هو من حزب العمال، إلا أنه من المعارضين للحرب على العراق...<BR><BR>لقد كان الموقف من الحرب على العراق إحدى أهم "خيول الرهان" التي يسابق عليها المرشحون، أو خصومهم، وساهمت أو نجحت المظاهرات التي شارك فيها مئات الآلاف في وضع هذه القضية على سلم أولويات الشعب البريطاني بعد أن لم تكن مثل هذه الحرب قضية أصلا للشعب الذي يهتم بالشأن الداخلي من زيادة الضرائب، وتردي الخدمات الصحية، وانخفاض أجور التقاعد ونحوها.<BR><BR>بعد أداء صلاة فجر الجمعة، والتي تقام الساعة الرابعة صباحاً وهو وقت مبكر جداً، أحد المصلين قال لي: رأيت النتائج؟ فتبسمت سائلاً: ومتى يمكن أن تكون قد أفرزت، وظهرت، وقد انتهت للتو، الساعة العاشرة مساءً؟ ثم كيف نراها والوقت مبكر جدًا؟ قال: لقد استيقظت الساعة الثالثة فجرًا، وفتحت التلفاز وإذا بحزب العمال يحتفل بنصره، حيث حقق أكثر من ثلث المقاعد بقليل، فبادرته: وماذا فعل حزب المحافظين؟ قال حقق أقل من الثلث بقليل...<BR><BR>ومع صباح يوم ‏الجمعة‏‏،‏‏ 6 مايو،‏‏ ‏أيار‏‏،‏‏ ‏2005‏ تتناول الصحف النتائج الرسمية للانتخابات، فقد حصل حزب العمال "الحاكم" بقيادة توني بلير (رئيس الوزراء الحالي) على 36 في المئة من مقاعد البرلمان، بينما جاء في المرتبة الثانية حزب المحافظين بقيادة هاورد اليهودي الأصل 33 في المئة من الأصوات.... ثم تتبارى الصحف في تحليل هذه النتائج، لكن يكاد يكون أهمّ ما يمكن أن يطلع عليه ضعيف المتابعة للشأن الانتخابي تعليقات الشعب البريطاني على نتائج الانتخابات، ولو أعملنا قاعدة "متى ينسب القول إلى الجمهور" المقررة عندنا في أصول الفقه، لوجدنا أن "جمهور الشعب البريطاني" مستاء جدًا من نتيجة الانتخابات، ولم أجد أبلغ من هذه العبارة في وصف ما جرى، إذ علقت إحدى النساء بقولها "<BR>We didn't have much of a choice really. All three parties are as bad as each other. When will we have the choice to voice our dissatisfaction with it all and have a box named 'none of the above' then we may have a better turn out”<BR><BR>ليس لدينا خيارات متعددة، كل واحد من الأحزاب الثالثة على درجة من السوء مثل الآخر، وحينما يكون لدينا خيار جديد، وصندوق جديد اسمه " لا خيار مما تقدم " يمكن أن نعبر فيه عن عدم رضانا، فربما حصلنا على ناخبين أكثر.<BR><BR>ثم تتابع التعليقات التي غلب عليها طابع الامتعاض من هذه النتائج -وهذا أمر غير مستغرب- فالكل يعاني من ارتفاع الضرائب، وكثرة الجرائم، وتدهور الخدمات الصحية، والتي يعتقد الجميع أنها نتاج لسياسات حكومة العمال...<BR><BR>لكن ثمت حقيقة تطل علينا من خلال قراءة هذه التعليقات، وهي - أعني تلك الحقيقة - بيت القصيد في هذه المقالة، إنه فشل الديمقراطية الغربية، أو على الأقل: فشل هذا النوع من الديمقراطية، المعروف بالنظام البرلماني، والذي يتمكن فيه أحد الأحزاب من الفوز بالانتخابات وتمثيل الحكومة، بمجرد حصوله على أكثر عدد من المقاعد البرلمانية، ففي هذه الانتخابات مثلاً حصل حزب العمال على أكثر عدد من المقاعد مقارنة بما حصل عليه منافسه، لكنه لم يحصل على أغلبية المقاعد في البرلمان، بل إن الواقع يمكن أن يُقرأ بطريقة عكسية -فبضدها تتميز الأشياء -إذ يمكن أن ينظر إلى حصوله على أكبر عدد من الأصوات فقط إذا ما قورن بالأحزاب الأخرى، وهذا قد يعني -كما هي الحال هنا - بأن أغلب المصوتين صوتوا ضد الحزب، لكن تفرق أصواتهم هو الذي منحه فرصة للفوز.<BR><BR>أحد المشاركين في استطلاعات الرأي الذي أجراه موقع البي بي سي حول الانتخابات يتساءل بطريقة تعكس فشل هذا النوع من الديمقراطية على الأقل، فيقول: <BR>How can democracy allow an individual with the lowest share of the vote in modern history to form a government? Would proportional representation or compulsory voting have reflected a more balanced or fairer administration?<BR><BR>"كيف يمكن للديمقراطية في العصر الحديث أن تسمح لمن حصل على أقل نسبة من الأصوات أن يشكل الحكومة؟ أليس نظام التمثيل النسبي، أو التصويت الإجباري، يعكس طريقة أكثر عدلاً وتوازناً؟<BR>وهكذا يجمع أكثر المشاركين في استطلاع الرأي بأن فوز حزب العمال بهذه الطريقة لا يعكس رغبة البريطانيين فيه، بل إنه على العكس من ذلك يشير إلى أن أغلب البريطانيين ضده، وضد سياساته، لكن هذا النوع من الديمقراطية، منح الأقلية، حكم الأكثرية، فأين تلك الديمقراطية، إذًا؟<BR><BR>وثمت أمر آخر تطالعنا به تلك الانتخابات، عبر عنه كثير من المحللين بقولهم: إن فوز بعض الأحزاب الأخرى غير الرئيسية ببعض المقاعد، وخسارة الحزب "الحاكم" –رغم فوزه بتشكيل الحكومة- مقاعد كثيرة، يدل على أن الناخبين البريطانيين سئموا حكم الحزب الواحد، أو الحزبين الحاكمين، وهم يبحثون الآن عن "التنوع".<BR><BR>أيها السادة الفضلاء: <BR>في الوقت الذي يلفظ العقلاء من العالم الغربي هذه النظم الديكتاتورية المغلفة بنظام حرية الكلمة، تتلقف نخبنا التي تُدعى ظلمًا وزورا بالنخب المثقفة؛ الديمقراطية، وكأنها المنقذ للبشر في الدنيا والآخرة، وتحاول الولوج منها إلى الطعن في النظام الإسلامي، والتخلف الذي تمثله النخب المتدينة في المجتمع، وفي ظني أن هؤلاء أحد اثنين:<BR>أولهما جاهل بحقيقة الديمقراطية الغربية، إذ قد أعشته حرية الكلمة عن إدراك كنه هذا النظام العفن، لكنّ الإعجاب بما عليه القوم ولّد لديه هذا الاعتقاد.<BR><BR>وثانيهما خبيث السريرة، ماكر العلانية، يدعو في الظاهر للرقي والتمدن، وينطوي باطنه عن رغبة جارفة للاستغراب والتفرنج.<BR><BR>ومهما يكن من أمر، فإني وإن قسوت في العبارات على كلا الطرفين، إلا أني أحب أن أتبع ذلك بعبرات تلطف من وقع كلماتي، فأقول: نعم كلاهما مخدوع، ولكن نظمنا القمعية في العالم العربي والإسلامي هي التي دفعت البعض منّا لهذه النظرة القاصرة.<BR><BR>نعم، في نظمنا العربية، لا ديمقراطية عفنة، ولا حرية كلمة، ولا إسلام، وتنظر الشعوب حيرى إلى الغرب، حيث يعيش الفرد نائيًا عن بطش الدولة، يقرأ مع الصباح الباكر نقدًا لاذعًا للحكومة التي أخفقت في التعامل مع تدهور الخدمات الصحية، وانخفاض مستوى التحصيل العملي لدى الطلاب، ويتناول سماعة الهاتف ليشارك باسمه الحقيقي ناقدًا وبقوة رئيس الوزراء على قرار سياسي لم يره صحيحًا، وإن كان هذا الفرد البريطاني ممن حظي بجواز السفر الأحمر الذي جعله "بني آدميّ" بعد أن كان معدوم الشخصية والكيان بجواز سفره القديم، أقول إن كان حاله كذلك، ازداد التماس العذر له في القناعة بالنظام الديمقراطي، لا سيما حينما تجول به الذاكرة ليتذكر ذلك اليوم الذي بحث فيه عن علاج مناسب لابنه المريض، فداخ سبع دوخات، وفشل في الحصول عليه حتى بعد المعاناة الطويلة، وفي خضم تلك المعاناة يقرأ في الجريدة اليومية عن تقدم الخدمات الصحية المتميزة في بلاده، وبذل الدولة والقائمين عليها للقطاع الصحي، ثم يفتح المذياع، ليستمع للاتصالات المتصلين التي لم تملك نفسها حين أرسلت باقات الشكر لقيادة الدولة، ووزارة الصحة لسهرهم على راحة المواطن!!.<BR><BR>أظن أن الدول الغربية أحرص من نظمنا القمعية على بقاء الأخيرة في السلطة، إذ بقاء تلك النظم، هو مسوغ الإعجاب بالغرب وبنظمه، وهو أس الهزيمة العقدية، والفكرية، والنفسية التي تعاني منها أمتنا، كما أنه كذلك سبب رئيس في بعد المسلمين عن الإسلام.<BR><BR>تخيلوا يا سادة وجود دولة إسلامية، تحكم بالدستور الإسلامي، والحاكم، محاكم من قبل الشعب، كما كان المسلمون يحاكمون عمر بن الخطاب عن ثوب لبسه، أو على الأقل تخيلوا يوما يفيض المال فيه عن حاجات الشعب، فيدار بالزكاة فلا تجد لها مصرفا، كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز، بل تخيلوا ما هو أضعف من ذلك: حينما ينتصر الخليفة لفرد من الشعب مظلوم، ولو كان ذلك بتيسير جيش الدولة كله، كما حدث في قصة المعتصم، أو هارون الرشيد، وتخيروا يا كرام الأضعف من ذلك يوم أن كان المسلم مصنفا على أنه أحد رعايا الدولة العظمى كما هو الحال في عصور خلافة ودولة العثمانيين، تخيلوا ذلك كله أو بعضه، فهل ترون المسلم حينئذ يعجب بنظام ديمقراطي بالٍ؟.<BR><BR>حقًا إنه كُفرٌ أن يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (المائدة: من الآية44).<BR><br>