السودان :التوجه للداخل
4 شوال 1427

في مواجهة الضغط الغربي عامة والأمريكي خاصة ،وبعد موقفه الرافض لنشر قوات غربية في دارفور-أو ما يسمى بالقوات الدولية-بات الحكم في السودان في صراع مع الزمن لتجميع المقدرات الداخلية للسودان من اجل تقليل مبررات التدخل في شانه الداخلي ولتحقيق حالة التفاف في الجبهة الداخلية حوله،وهى التي باتت الأشد اختراقا من أية دولة أخرى ،بعد الاتفاق الذي عقده مع متمردي الجنوب والذي جعلهم الآن الثغرة الأخطر في داخل الوطن –بد\لا من أن يقوى الجبهة الداخلية ويضعف التدخل الخارجي أو ذرائعه-أو بسبب أن كثير من القوى السياسية الداخلية –بما فيها حزب المؤتمر الشعبي الذي يرأسه د.حسن الترابي- باتت تؤيد علنا دخول القوات الغربية تحت مظلة وغطاء الأمم المتحدة إلى إقليم دارفور.<BR>في الأيام الأخيرة قامت الحكومة السودانية بتوقيع اتفاق مع قوى التمرد في الشرق محاولة بذلك إغلاق باب مفتوح على مصراعيه لتدخلات إقليمية ودولية ،كما هي بدأت من جانب آخر في طرح قانون جديد للأحزاب السياسية في محاولة لضبط الأوضاع السياسية الداخلية ،وكلا الأمرين جاء في غمار حملة تعبئة داخلية لمواجهة محاولة الغزو الخارجي –تحت مسمى القوات الدولية- هي في جانب منها محاولة لتجميع حركة جماهيرية حول الحكم الذي باتت تسعى كثرة من القوى الداخلية والخارجية إلى عزله داخليا وإسقاطه، كما هي حملة تستهدف من جانب آخر،محاولة إظهار توافق بين الحكم ورأى الشارع السوداني الرافض لنزول القوات الغربية في دارفور.<BR>وفى هذا التوجه للداخل ،تواجه الحكومة السودانية مأزقا معقدا أو مركبا في تعقيداته بسبب سياساتها السابقة،إذ كل اتفاق سعت إليه ووقعته مع قوى متمردة على الحكم إنما دفع بقوى جديدة إلى التمرد في منطقة أخرى ،تقديرا من الجهات والأطراف السودانية المتمردة ،بأنها أن لم تتحرك الآن في ظل ضعف الحكم في المركز فإنها لن تنال ما تعتبره حقوقا لها من بعد .كما أن الحكومة وجدت نفسها- في ظل هذه السياسة -كلما تقدمت في اتفاق مع كل قوة تمرد جديدة ،محكومة أو محصورة في التنازلات التي يمكنها تقديمها للمتمردين الجدد، بما قدمته من قبل من تنازلات موثقة مع أطراف سابقة حددت معها فيها نسب اقتسام الثرة والسلطة فصارت قيدا عليها ،بما قد يجعلها في نهاية المطاف بلا قدرة على المناورة الداخلية مع أطراف جديدة ،إلا على حساب ما تبقى لها من نصيب في الحكم ،إذ هي في هذا التوجه ورغم عقدها اتفاقات مع متمردي الجنوب ودارفور والشرق ،تجد نفسها ما تزال واقعة تحت ضغط قوى "الشمال" التي تقف في طابور المعارضة تنتظر دورها الحاسم في قلب المعادلات الداخلية باعتبار أن القوى الحزبية"الشمالية" ما يزال البعض منها خارج كل الاتفاقات بما يجعله دوما جاهزا "لتوجيه" اللكمة الأخيرة للحكم .<BR>فإلى أين تسير الأوضاع في السودان ،وهل ينجح التحرك الأخير باتجاه تعميق الولاء الداخلي للحكم ؟أم أننا سنشهد تطورات داخلية أعمق قد تودي بالحكم في السودان إلى حالة أخرى جديدة ؟<BR><font color="#0000FF">الشمال أم الجنوب أولا؟</font><BR>فى ترتيب أوضاعها أو في مواجهة الضغوط الداخلية والتمردات والتهديدات الخارجية سعت الحكومة السودانية –ما بعد الانشقاق الذي حدث في الحزب الحاكم –إلى تسريع مفاوضاتها مع تمرد الجنوب ،لأسباب متعددة منها انه كان التمرد الأكثر استنزافا لطاقة الدولة السودانية ماليا وعسكريا ومن ثم ارتبط السعي إلى اتفاق معه إلى تقوية قدرة الدولة تكتيكيا بوقف هذا الاستنزاف.ومنها أن تمرد الجنوب كان التمرد الذي مثل مرتكزا للقوى الخارجية لتصعيد تدخلها في الشأن الداخلي خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا فأرادت الحكومة من ذلك الاتفاق تخفيف ذرائع الضغوط الخارجية ضدها،وكذا بسبب أن المنطقة التي كان ينشط فيها التمرد كانت الأهم اقتصاديا بالنسبة للحكم حيث البترول السودان المستخرج هو من تلك المناطق التي ينشط فيها تمرد الجنوب .ويضاف إلى ذلك أن مصداقية الحكم وشعبيته كانت قد تعرضت لاهتزاز شديد (بعد الانشقاق في الحكم ) فكان من الضروري التحرك باتجاه يحقق قدرا من الجماهيرية للحكم ،أو كان الحكم يبحث عن مشروعية جديدة بديلا لمشروعيته التي استمدها من قبل من "الجهاد" ضد الجنوبيين ،فاستبدلها بمشروعية" السلام" !.<BR>غير أن الاتجاه جنوبا وعقد الاتفاق وما احتواه من تقسيم لنسب المشاركة في السلطة وبما شمله من اقتسام للثروة البترولية بشكل خاص وبحكم ما حدث في ضماناته من دخول قوات غربية إلى ارض السودان –وبرغم ما حقق تكتيكيا للحكم في بحثه عن مشروعية جديدة بعدما ضربت مشروعيته الجماهيرية بالانقسام في داخل الحركة الإسلامية-قد نتج عنه تحرك فجائي للأوضاع في دارفور لتنفتح جبهة اشد وطأة على الحكم في السودان .كانت جبهة دارفور هي الأعقد والأشد وطأة بحكم أنها لم تكن جبهة صراعية أبدا ضد الحكم أو في الصراع داخل السودان أو عليه من قبل،بما تسبب في ضعف بناء الدولة وأجهزتها تاريخيا فيها وهو ما صعب المواجهة مع التمرد المندلع فيها في البداية ،إذ كان الصراع فيها هو صراع قبلى ،كانت الدولة فيه تقوم بدور الحكم والمحكم.وكانت تلك الجبهة هي الجبهة الأخطر استراتيجيا إذ هي في صلب مكون الدولة المستقر تاريخيا في السودان –على خلاف الجنوب –ومن ثم فان الاضطراب فيها ،قد مثل عامل هدم للمكون الصلب في المجتمع والدولة السودانية وكلاهما هش بطبيعة التركيب ولظروف التكوين التاريخي ،كما هي مفتوحة على حدود في تماس مع نمط آخر من المستعمرين –كانت هي تستعين بتناقضه مع الاستعماريين الآخرين في حل مشكلة الجنوب-إذ أن فرنسا المسيطرة على تشاد بقوات عسكرية هي من يتواجد قرب حدود دارفور بما يفتح السودان على نمط آخر وأطراف أخرى من الصراعات .وأخيرا بسبب أن دارفور فتحت جرحا عميقا غير مسبوق في نمط تفتيت السودان ،إذ دارفور ذات مكون ديني واحد حيث جميع سكانها من المسلمين -على خلاف الجنوب الذي به نسبة من المسيحيين إلى جانب نسبة مساوية من المسلمين وكلاهما مجموعا يمثل أقلية في داخل الجنوب –والصراع يجرى فيها على أساس العرق لا على أساس الدين والقبيلة فقط .<BR>فزع الحكم في السودان مما جرى في دارفور،فسارع إلى "تقوية" جهاز الدولة في دارفور وتغيير أنماط تشكيل مؤسسات الحكم فيه ،مع اللجوء في الوقت ذاته إلى "المؤسسة القبلية لتشكيل حالة محلية للدفاع في مواجهة التمرد والأطماع الزاحفة من تشاد .<BR>ووسط حالة الاضطراب هذه وبعد أن تمكنت الدولة السودانية من توقيع اتفاق مع بعض متمردي دارفور دون البعض الآخر – بما شق حركة التمرد-فوجئت الدولة السودانية بالإصرار السافر للولايات المتحدة وبريطانيا والدول الغربية الأخرى على إنزال القوات الغربية في دارفور ،كما فوجئ بمن يمنح والقوة والقدرة لتمرد الشرق الذي لم يكن احد يلتفت إليه لضعفه،فتحول إلى مكمن خطر شديد "استراتيجيا" ،حيث الشرق هو ممر البترول الذي سبق تامين جبهة الجنوب بفعل الاتفاق مع الجنوبيين ،كما الشرق هو النقطة الأخطر بوجود جار نشط في عدائه للسودان هو اريتريا التي كانت نقطة الارتكاز لتمرد الجنوب في لقائه مع أحزاب الشمال التي حملت السلاح من قبل وفتحت جبهة الشرق ،فتحركت الدولة باتجاه الشرق لدعم موقفها الداخلي مجددا ولتوسيع مجال قدرتها على المواجهة المتفاعلة في دارفور.<BR>وفى كل ذلك فان اللافت هو أن حكومة السودان قد تحركت في اتجاه الجنوب أولا –ودون التفاوض مع الأحزاب الشمالية التي كانت متحالفة مع الجنوبيين-ثم هي تحركت باتجاه الأحزاب الشمالية كتحصيل حاصل للاتفاق مع الجنوبيين في اتفاق القاهرة دون قطع حاسم مع كل الشماليين إذ بقيت بعض الأحزاب أهمها حزبي المؤتمر الشعبي برئاسة الترابي وحزب الأمة برئاسة الصادق المهدي ،ثم هي توجهت إلى دارفور لتبرم اتفاقا ثم إلى الشرق في الأيام الأخيرة ،بما يفترض معه أن تحصل على وضع داخلي أفضل ،لكن ما هو حادث حتى الآن لا يحمل تلك المؤشرات .<BR>فهل مثل هذه الاتفاقات تؤمن استمرارا للنظام في الداخل ؟ وهل ما جرى من اتفاقات قد اضعف احتمالات التدخل من الخارج أم ضاعف من احتمالاته وربما جعل التدخل الخارجي معطى داخليا ،والى أين يسير السودان ؟<BR><font color="#0000FF">من الداخل إلى الخارج؟</font><BR>في اتفاق الجنوب أو في الاتفاق مع متمردي الجنوب ،ورغم أن الاتفاق سار في جوانبه الداخلية سيرا معقولا-حتى مع وفاة المسئول الجنوبي الذي وقعه إلى جون جارانج-فان المواقف التي أخذها شريك النظام في السلطة جاءت دوما للخارج وللتدخل الخارجي في الشأن السوداني .لقد أعلن ممثلو حركة التمرد المشاركين في الحكم في السودان عن تأييدهم للتدخل الخارجي في مشكلة دارفور كما هم أيدوا قرارات مجلس الأمن لإرسال قوات دولية في دارفور ،وهم في ذلك يقفون موقفا متسقا مع الاتفاق الذي وقعوه مع الحكومة السودانية بحكم انه جاء نتيجة ضغوط ومشاركة خارجية أمريكية بشكل خاص ،وبالنظر إلى انه نص على نشر قوات دولية في مناطق معينة لضمان الاتفاق ،كما هم اخذوا هذا الموقف لإدراكهم أن استمرار الضغط الخارجي على الحكم في السودان هو الضمانة لتحقيق أهدافهم.والمهم هنا هو أن شريك الحكم قد نقل الضغط الخارجي إلى ضغط داخلي مستمر .كما أن الاتفاق قد نص على احتمالات الانفصال من خلال استفتاء يعقد بعد 6 سنوات وهو ما يعنى أن الاتفاق إذ حاول توجيه الأمور نحو وحدة الداخل وبإبعاد التدخل الخارجي،فانه كرس تدخل الخارج في شئون الداخل .<BR>وفى الاتفاق حول دارفور ،فان الأهداف إذ توجهت نحو تمتين الوضع الداخلي وتقليل مساحة التدخل الخارجي ،فان ما حدث هو أن بعض الأطراف الداخلية التي لم توقع على الاتفاق توجهت بشكل أعمق إلى الخارج وباتجاه التدويل كما أن بعض القوى الدارفورية الأخرى التي هي امتداد لحركات في الشمال قد وجدت في حركاتها الأم مظلة سياسية للتدخل الخارجي ،خاصة جبهة التمرد المرتبطة مباشرة بحزب المؤتمر الشعبى.وفى الاتفاق الأخير مع جهات التمرد في الشرق ،فان الاتفاق وإذ استهدف تحويل التناحر إلى توافق وتقليل التدخل الخارجي خاصة من جانب اريتريا ،فانه في واقع الحال قد عمق الدور الاريتري في التدخل في الشأن الداخلي في السودان ،إذ اريتريا هي راعية الاتفاق رسميا بما يعطيها حق التدخل أكثر لمراجعة تطبيق الاتفاق ،كما هي في ذات الوقت صاحبة دور مشهود -أعلنته الحكومة نفسها أو بالدقة أعلنه الرئيس البشير نفسه -في دعم متمردي دارفور ،بما يعنى أن الاتفاق الأخير في الشرق مد مساحة تدخلها في الشأن الداخلي السوداني ،خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنها كانت حليفة تمرد الجنوب والأحزاب الشمالية خلال نشاطها العسكري في الشرق ،وهو ما يجعلها الأقرب إلى كل الأطراف السودانية المعارضة ربما أكثر من الحكومة السودانية.<BR>وهكذا فان النظرة الاستراتيجية تكشف كيف أن كل الاتفاقات التي جرت لتحويل الصراع إلى توافق داخلي حملت بعدا أوسع وأعمق للدور الخارجي في داخل السودان مع بقائه سيفا مسلطا على رقبة الحكم من الخارج أيضا ،إذ كل ما جرى من اتفاقات لم يقلل –بل زاد-من الضغط الخارجي –الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والغرب عموما لم ترفع أي من العقوبات-بل هي أعطته مساحة من التأثير الداخلي أكبر وأعلى واخطر.<BR><font color="#0000FF">الحكومة والمأزق الاستراتيجي</font><BR>في الحصاد الأخير إذن،يبدوا أن الحكم في السودان قد وصل إلى مأزق استراتيجي عام ،إذ باتت الفكرة الأخيرة التي يتشبث بها -فكرة تجميع الداخل لمواجهة الخارج أو استثارة الداخل لمواجهة الخارج –هى فكرة محاصرة على نحو ما ،وان لم تخلو من عوامل قوة بفعل الحشد الجماهيري خاصة ،وهو ما جعل الحكم في السودان يوجه طاقته إلى هذا الحشد ،كما هو على ما يبدو ما فهمت الأطراف الغربية انه نقطة الفكاك له من المأزق الاستراتيجي ،فصارت تحاول إفقاده قوة هذه الورقة بضغطه تدريجيا عليه -دون إنزال القوات في دارفور بالقوة العسكرية-لكي يجبر على الموافقة على نزول القوات في دارفور وفق قرار مجلس الأمن دون أن يجرى قتال يمكنه من مضاعفة الحشد الجماهيرى حوله .<BR>والباقي في اللعبة الجارية حاليا هو أن النظام السوداني أن وافق على تنفيذ القرار الصادر من مجلس الأمن ،والذي هو لا يدخل القوات الدولية فقط بل هو يؤسس لاستقلال تلك المنطقة عن جسد السودان بما وضعه من شروط لعمل تلك القوات ،فانه بذلك يكون قد أطيح به شعبيا وربما رسميا ،ويكون بذلك قد سلم السودان إلى قدر التفكيك .<BR>ولذا يقف الحكم موقفا حاسما من مسالة إنزال القوات ،كما لذا قال البشير أن من الأشرف له أن يكون قائد مقاومة لا رئيس جمهورية في حال إنزال القوات الدولية في دارفور .<BR><BR><br>