الفتنة الطائفية في مصر . . من ظاهرة عابرة إلى أزمة بنيوية
18 جمادى الأول 1428

تميزت العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر – طوال التاريخ – ما عدا الثلاثين عاماً الأخيرة ، بأنها علاقة متينة وقوية وسوية حتى وصل الأمر إلى حد القول بأن المسيحيين في مصر ، وخاصة الأرثوذكس منهم ليسوا أقلية ، بل جزأ لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري والعربي والإسلامي ، وكان ذلك يرجع إلى مجموعة من العوامل البنيوية منها .<BR>- التسامح الإسلامي المعروف ، وسماح الإسلام لغير المسلمين بالمشاركة في البناء الثقافي والحضاري ، وقد ساهم المسيحيون المصريون في ذلك البناء بقوة ، وبرز منهم العديد من الرموز ، مثل خليل اليازجي الذي دافع عن اللغة العربية في وجه الذين يهاجمونها أو يدعون إلى اللغة العامية مثل صحيفة المقتطف ، عام 1881 . <BR>- أن الإسلام حين دخل مصر حرر المسيحيين من الاضطهاد الروماني وكان لذلك أثره بالإضافة إلى عوامل أخرى في قبول المصريين مسلمين ومسيحيين للغة العربية ، التي أصبحت الوعاء الثقافي للجميع ولا شك أن هذا صنع نوع من التصور والوعي والتفكير المشترك . <BR>- أن تراث الكنيسة المصرية ومن خلال صراع طويل سقط فيه العديد من المسيحيين ارتبط بفصل ما هو زمني بما هو روحي ومن ثم أصبحت الكنيسة ممثلاً للمسيحيين في الجوانب الروحية فقط وهكذا كان من الطبيعي أن يشارك المسيحيون مثل المسلمين في العمل العام سلباً وإيجاباً بمعنى أن منهم من وقف مع الحركة الوطنية المصرية والعروبة والإسلام الحضاري ومنهم من وقف مع الانعزالية والاستعمار . . . . الخ مثلهم مثل ما حدث بين المسلمين الأمر الذي جعل الموضوع خارج إطار الطائفية أصلاً. <BR>- أن الكنيسة المصرية وقفت ضد عمليات التبشير والتذويب الأوروبي ، بل إن البابا كيرلس اشترى مطبعة ليواجه بها منشورات التبشير الذي رآه خطراً على الأرثوذكسية المصرية قبل أن يكون خطراً على الإسلام ، كما وقف بطريرك الأقباط مثل مشايخ الإسلام وحاخام اليهود مع الثورة العرابية عام 1882 في صراعها مع الخديوي توفيق . <BR>ولكن الأمور تغيرت فيما بعد وخاصة منذ عام 1972 ، وبدأت أحداث الفتنة الطائفية تتكرر بدءاً من حادث الخانكة عام 1972 ، وحادث الزاوية الحمراء 1981 ، ثم أحداث قبل ذلك وبعده انتهت بحادث الإسكندرية 2006 الذي قام فيه أحد المسلمين هو محمود صلاح الدين ، بمهاجمة ثلاث كنائس الواحدة تلو الأخرى مما أدى إلى مصرع شخص واحد وجرح 6 آخرين وقد ثبت أن هذا الشخص مختل عقلياً ، وكان قد تم علاجه من هذا الخلل العقلي عدة مرات أثبتتها دفاتر المستشفيات التي تم تحويله إليها ومنها المستشفى العسكري الرسمي في المعادي ، بل إنه هو نفسه كان قد هاجم في العام الماضي " أبريل 2005 " كنيسة الحضرة ، ولم تحدث خسائر ، وتوسطت الكنيسة ذاتها في حفظ التحقيق معه لأنه كان معروفاً في المنطقة – المتهم ينتمي إلى منطقة الحضرة بالإسكندرية – وهي نفس منطقة الكنيسة ومعروف جيداً للمسلمين والمسيحيين هناك ، بل ومعروف أنه مصاب بخلل عقلي ، وهكذا فإن المسألة كان يمكن أن تمر بهدوء لولا وجود مناخ طائفي واحتقان موجود أصلاً بين الطرفين ، المهم أن المسألة تطورت باتجاه التصعيد ، حيث تجمع المسيحيون في تلك الكنيسة وبدؤوا يهتفون ضد المسلمين ، وضد الحكومة المصرية ، وصدرت بيانات عن الكنيسة تزعم وجود مؤامرة لعبت الحكومة والأجهزة الأمنية دوراً فيها ، وتم تلقف الحدث وتصعيده إقليمياً وعالمياً لإثبات وجود اضطهاد يمارس ضد المسيحيين المصريين . وقام المتظاهرون المسيحيون بالاعتداء على عدد من المسلمين وقتلوا أحد المسلمين ، وتم جرح عدد آخر من المسلمين ورجال الأمن ، ورد المسلمون بالمثل ، وفي النهاية نجحت جهود علماء الإسلام والقيادات السياسية وبعض المسيحيين في تهدئة الأوضاع وقامت مظاهرة من الطرفين تحمل شعار الهلال مع الصليب ثم بدأت نفس النغمة المتكررة ، فالذي حدث لم يخرس الوحدة الوطنية ، وأن مصر بخير ، وأنه لا داعي للقلق من تصرفات قلة متشددة هنا أو هناك . <BR>وفي الحقيقة فإن الحوادث تتكرر ، ونكاد نقول إنه منذ عام 1972 حدثت مئات الحوادث الطائفية المعلنة وغير المعلنة ، الكبيرة والصغيرة ، وفي كل مرة تتم معالجة المسألة بنفس الطريقة على طريقة دفن الرؤوس في الرمال دون البحث عن الأسباب البنيوية الكامنة ، ومحاولة علاجها جذرياً بهدوء وببطء وعلى وقت كاف ، وليس إغلاق الجراح على ما فيها من صديد . <BR>هناك ما يمكن أن نسميه بالمسألة القبطية نشأت منذ السبعينات ، لأسباب سوف نناقشها فيما بعد ، هذه المسألة تدور حول حق بناء الكنائس ، نسبة التمثيل في الأجهزة الحكومية ، عدم التمييز بين الأقباط والمسلمين في الوظائف . . . . الخ . . . . وبديهي أن هناك طلبات معقولة وأخرى غير معقولة ، فالمسيحيون في مصر يبلغون 6 % حسب الإحصائيات الرسمية . . . تراوحت تلك النسبة بين 5.8 ، 6.2 % منذ الإحصاءات التي تمت أيام الاحتلال الإنجليزي وحتى آخر إحصاء الأمر الذي يقطع بعدم القدرة على التشكيك في تلك النسبة ولكن المشكلة أن هؤلاء يتحدثون عن 20 % من السكان ومن ثم حين يقارنون تلك النسبة المزعومة مع وجودهم في الوظائف العليا مثلاً يبدو أن هناك خللاً ، المهم أن الحكومة المصرية استجابت لطلب بناء الكنائس وجعلته من سلطة المحافظين ومديري الأمن وليس رئيس الجمهورية كما كان من قبل ، مع العلم أن عدد الكنائس بالنسبة لعدد المسيحيين في مصر يزيد عن عدد المساجد بالنسبة لعدد المسلمين في مصر ، وكذا فإن الحديث عن تمثيل نسبي في الوزارات والبرلمان وغيرها هو نوع من تكريس الطائفية ، ولا يمكن تحقيقه إلا بالانتخابات وبديهي أن هذه لن تأتي بمسيحيين بسهولة ، ومن ثم فإن الديمقراطية لا تتفق مع مسألة التمثيل النسبي لهم ! ! . <BR>أياً كان الأمر ، فإن مثل هذه المشاكل يمكن مناقشتها في الأوساط المدنية ، عن طريق الأحزاب مثلاً ، ويشارك فيها الجميع ، ولكن أن تكون مطالب مرفوعة من الكنيسة ، التي طاعتها واجبة بالنسبة للمسيحيين على عكس شيخ الأزهر مثلاً الذي لا تلزم طاعته المسلمين يحول البلد عملياً إلى حزبين كبيرين ، حزب مسيحي أرثوذكسي بقيادة البطريك وحزب إسلامي بقيادة رئيس الجمهورية . ولعل هذا في حد ذاته أحد الأسباب البنيوية في ظهور المسألة الطائفية في مصر ، وفي الحقيقة فإن ممارسة البطريرك للسياسة يخالف عقائد الكنيسة ويوقعها في حرج ويخالف التراث القبطي المصري التقليدي ، وهو ما لم يُعرف في تاريخنا إلا بعد صعود البابا شنودة لسدة البطريركية عام 1971 ، والأكثر خطورة في هذا الصدد أن البابا الحالي قبل الانخراط في مجلس الكنائس العالمي ، الذي وصفه مفكرون أقباط مثل وليم سليمان قلادة وكتاب مسلمون مثل محمد حسنين هيكل بأنها صنيعة المخابرات الأمريكية ، وكان الباب كيرلس السادس – البابا السابق – قد رفض دخول هذا المجلس عند إنشائه وهذا بالطبع يدفع في اتجاه استغلال الولايات المتحدة للمسألة القبطية في مصر ، ومحاولة زرع عوامل طائفية في البنية المصرية ، وقد تحركت أجهزة أمريكية وبعثات تنصير في هذا الصدد ، كما تم الضغط أكثر من مرة على الحكومة المصرية عن طريق الأمريكان في هذا الصدد ، الأمر الذي أشعر المسلمين المصريين ، بل والمصريين جميعاً ، بأن هناك من يريد استغلال المسألة ، وانتظر هؤلاء أن تتخذ الكنيسة المصرية موقفاً حازماً من ذلك فلم يجدوا هذا الموقف ، الأمر الذي تم ترجمته في الشعور المصري العام بأن هناك استقواء من الجانب المسيحي المصري بالأمريكان ، وقد لفت الأستاذ جمال أسعد وهو مسيحي أرثوذكسي مصري نظر الكنيسة عدة مرات وندد بهذا الشعور بالاستقواء ، ولكن الرد كان من الكنيسة وعدد كبير من الرموز المسيحية بالهجوم على جمال أسعد بل والتشكيك في مسيحيته التي يعتز بها كما يعلق دائماً في الإطار نفسه نجد أن هناك جماعات مسيحية مصرية في المهجر ، تدعي أن مصر محتلة بالعرب ، وأنه ينبغي إخراج المحتلين العرب من مصر ، وتعقد هذه الجماعات مؤتمرات تقول فيها ذلك علناً بدعم معروف ومكشوف من منظمات يهودية وصهيونية وأمريكية وكنسية غربية ، ووصل الأمر بهؤلاء إلى حد تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بدعوى وجود اضطهاد في مصر للمسيحيين ، كل هذا بالطبع يترك بصمات من المرارة لدى المصريين عموماً والمسلمين منهم خصوصاً تجاه الكنيسة المصرية، ولا يمكن بالطبع هنا للعقلاء من الطرفين أن يدافعوا عن موقف الكنيسة طالما أنها لم تصدر قرارات حرمان لرموز جماعات المهجر التي تسلك هذا السلوك وبديهي أن شعور المسلمين بوجود استقواء مسيحي بالأجنبي سيجد تعبيرات كثيرة متوقعة وغير متوقعة مثل رد الفعل الذي قام به محمود صلاح رغم أنه مختل عقلياً ، لأن هذا الإحساس يزيد الاحتقان الطائفي ليصبح جواً عاماً من الغيظ وعدم الثقة بين الطرفين سيعبر عن نفسه يوماً بطريقة غير سوية إذا لم يتم علاجه ، في نفس الإطار فإن معالجة الحكومة للمسألة كانت شديدة القصور ، فإذا حدث اعتداء على مسيحي مثلاً قامت الحكومة تحت الضغط الأمريكي ، أو لمنع وجود هذا الضغط بالتحيز لصالح المسيحي ، وهذا يخلق وجداناً طائفياً خطيراً ، وهو في غير صالح المسلمين والمسيحيين في المدى الطويل ، وعلى سبيل المثال فإن السيدة وفاء قسطنطين مثلاً حين أسلمت وهذا حقها ، اضطرت الحكومة في النهاية إلى تسليمها إلى الكنيسة التي قامت بحبسها داخل أحد الأديرة ، مما ترك شعوراً بالمرارة لدى المسلمين ، في أن موضوع حرية العقيدة تتم مخالفته لصالح الكنيسة ، وأن الكنيسة أصبحت دولة داخل الدولة ، لدرجة أن أحد الكتاب العلمانيين علق على الأمر بقوله " إن الحكومة المصرية ليس لها سفارة في دير وادي النطرون " ! ! . وهكذا فإنه حين تحدث أحداث طائفية ويتم اعتقال مسيحيين ومسلمين فإن البابا يصوم من أجل إطلاق سراح المسيحيين فيتم الإفراج عنهم وتتردد الحكومة في الإفراج عن المسلمين ، وقد وصف أحد الكتاب الإسلاميين ذلك – الدكتور محمد عباس – بقوله إن المسلمين في مصر يعاملون كأقلية . <BR>هذه العوامل السابقة ورغم كونها تكتيكية بمعنى أنه يمكن تغييرها بقدر من الجهد تصب كلها في تحويل المسألة الطائفية إلى أزمة بنيوية ، وبديهي أن هناك أسباباً أخرى أكثر عمقاً منها غياب المشروع الوطني القومي أو الإسلامي بالنسبة للحكومة المصرية ، ومن ثم فإن البحث عن الانتماء الديني كان هو البديل الطبيعي والبديهي ، وكذلك وجود أزمة اقتصادية طاحنة جعلت الناس تلوذ بالمسجد أو الكنيسة لأسباب كثيرة ، وكذا غياب أو ضعف الأحزاب السياسية وانسداد أفق التغيير الديمقراطي ، أو حتى العمل السياسي الآمن المشروع ومن ثم يصبح الملاذ هو المسجد أو الكنيسة ، وأخيراً فإن ظهور العولمة ، وما تمخض عنها من محاولة تفتيت الكيانات القومية والوطنية وعدم تصدي الحكومات والأحزاب لذلك جعل من السهولة بمكان اختراق البناء الثقافي للمجتمع وزرعه بالأفكار الطائفية والممارسات الطائفية وكلها عوامل سواء منها الظاهر أو العميق تحتاج إلى وقت وجهد ودأب وعلاج طويل ، وإلا فإن علينا أن نتعامل مع حوادث الفتنة الطائفية كشيء بنيوي في المجتمع وهو أمر شديد الخطورة .<BR><br>