تنصير الجزائر حقيقة ملموسة ومؤلمة!
2 شعبان 1426

لم يكن الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي استمر أكثر من 130 سنة يسعى إلى احتلال الأرض فقط ، ولم يكن المطلب وقتها فتح جغرافية إستراتيجية للفرنسيين في الشمال الإفريقي.<BR>ولعل الخطر الرهيب الذي واجهه الشعب الجزائري إبان الاحتلال كان خطر الاستعباد بكل ما تعنيه الكلمة من ذوبان في ثقافة وفي لغة المحتل. <BR>التاريخ الحديث يذكر المقولة الشهيرة التي أطلقها الجنرال شارل ديغول عن (الجزائر الفرنسية)، والذي شاع استعمالها واستسهالها طوال عقدين من الزمن، والحال أن مخطط "سولفون" كان يعتمد في النهاية على ثالوث الدين اللغة والسياسة. بيد أنه لم تكن الجزائر الفرنسية إلا النموذج النصراني في معتقد "شارل سولفون"، فتحويل المساجد إلى كنائس، وفرض البديل الفرنسي اجتماعياً وثقافياً عبر جملة من الممارسات جعلت أكثر من 120 قساً فرنسياً يدخلون إلى الجزائر في منتصف الخمسينات لأجل الدعوة إلى " السلم" عبر الدعوة إلى المسيح في دولة كانت الحرب تصنع أمجادها بفضل إصرار الثوار على عدم التنازل عن الأرض ولا عن الدين. <BR><BR>استمرت الحرب التنصيرية على الجزائر، وعلى دول الشمال الإفريقي حتى والجزائر تستعيد استقلالها في يونيو 1962م، وإن غادر جنود الاحتلال الفرنسي الجزائر، إلا أن المنصرين لم يغادروا الجزائر وقتها، بل استقروا بنفس الشعار "السلمي" في كنائس ظلت مفتوحة في الكثير من المناطق، وفي مناطق أخرى ظلت تباشر نشاطها بسرية كبيرة، كمناطق الغرب الجزائري ونقطة القبائل التي يعدها المنصرون الأرض الخصبة لحربهم. <BR><BR>قبل عامين، حين نشرت إحدى الجرائد المحلية الجزائرية خبر إلقاء قوات الأمن القبض على جماعة من الأشخاص وفي حوزتهم 10.000 نسخة من الإنجيل، وقتها كانت الصورة أقرب إلى الخيال، حتى وموضوع التنصير يتحول إلى حقيقة أكدتها الجهات الرسمية التي وعدت بالوقوف في وجهها، باعتبار أن الحملة التنصيرية على الجزائر صارت حرباً أيديولوجية ودينية معا للقضاء على الإسلام وعلى اللغة العربية وعلى المعتقدات أيضاً عبر استرجاع البديل القديم الذي كان يطرح في العشرينات على أساس أن الحل لمشاكل الدول الفقيرة هو العودة إلى المسيح! <BR><BR>وهذا المشروع تبنته الكنيسة الكاثوليكية فعلاً في العديد من الدول الإفريقية، في ساحل العاج والسنغال والكاميرون، وحتى الدول ذات الأغلبية المسلمة مثل الصومال والنيجر.<BR>لكن الحرب الحالية ليست بسيطة؛ لأنها ببساطة تستهدف الجزائر بنفس الرؤية الكولونيالية القديمة، والفرق الوحيد هو أن التنصير صار يعتمد على وسائل تنصيرية متخفية عن السابق، تقف خلفها مؤسسات خيرية وأخرى تعليمية ومراكز ثقافية أجنبية أيضاً..<BR><BR>10.000 نسخة من الإنجيل، قيل وقتها أن عدداً مماثلاً تم توزيعه فعلاً في جهات كثيرة من الجزائر، وبالضبط في منطقة القبائل التي تعرف بتشددها الفكري والسياسي مع السلطة، والحال أن استغلال هذا التشدد قصد استئصال هذه المنطقة جغرافياً عن بقية الجزائر ظل بمثابة المطلب العاشر بالنسبة للحركات الأمازيغية المتطرفة.<BR>والحال أن تلك الدعوة تأخذ في الكثير من الأحيان عوامل الظرف والبيئة مأخذ التحضير الاستراتيجي، ليس هذا فقط، بل أن الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر منذ 1992م، فتحت الباب واسعاً إلى جماعات تنصيرية لتنشط وبشكل مثير للانتباه بين سنتي 1995م و1998م، وقد نجحت حسب إحصائيات نشرتها إحدى الجرائد المحلية في استدراج أكثر من 10.000 جزائري إلى المسيحية، كانت تلك المكاشفة تصادف إعلاناً غريباً أصدرته السفارة الفرنسية في الجزائر بفتح أبوابها لمن يرغب بأخذ الجنسية الفرنسية للجزائريين من مواليد نوفمبر 1954م ويونيو 1962م، وهما تاريخان مهمان في تاريخ الجزائر، فالتاريخ الأول يرمز إلى اندلاع الثورة التحريرية والتاريخ الثاني يرمز إلى الاستقلال في الجزائر!<BR><BR>اعتراف السلطة الجزائرية بالمسألة "الأزمة" التنصيرية، شكل في الحقيقة واجهة لكشف الكثير من الحقائق "الصغيرة" منها تورط فرنسا في هذه الحملة التنصيرية التي يقف أمامها الشعب الجزائري موقف العاجز، بالخصوص وأن إشكالية الوضع القائم اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً غطت إعلامياً على كل المشاكل الأخرى، مع ذلك، أصدرت وزارة الشؤون الدينية بشكل رسمي بياناً عبرت فيه عن مخاوفها إزاء ممارسات ونشاطات غير الشرعية لبعض الجهات والجمعيات الثقافية الدينية النصرانية في مناطق عديدة من الجزائر، مبدية قلقها مما بلغها عن انغماس عدد من الشباب في الطقوس المسيحية في العديد من المناطق الجزائرية.. وعن سؤال طرحناه مباشرة إلى السيد علاء الدين مروان (أحد النشطاء التابعين إلى جمعية العملاء المسلمين سابقاً)، قال: " إن الواقع الذي يعرفه الجميع مفاده أن الجزائر معرضة إلى التنصير فعلاً، وإن تورط المراكز الثقافية والجمعيات التابعة رسمياً إلى الكاتدرائية في الجزائر تساهم في عملية التنصير، وفي استقطاب الشباب إلى المسيحية مقابل وعود كثيرة منها الحصول على الجنسية الفرنسية وعلى راتب إعانة تماماً كما تدفعه فرنسا للعاطلين عن العمل على ترابها والمقدر بـ300 يورو شهرياً للعزاب، و600 إلى 800 يورو للمتزوجين، مقابل أن يصبحوا مسيحيين قلباً وقالباً، بولاء شبه مطلق إلى الكنيسة (عبر القس) ومن خلاله للدولة التي تعينهم مالياً"! <BR><BR><font color="#0000ff">من يقف وراء التنصير في الجزائر؟</font><BR>طوال الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر لأكثر من 12 سنة، كانت الأجواء العامة أشبه بساحة ملغومة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كان العنف السياسي ظاهرة جديدة تعرفها الجزائر لأول مرة في تاريخها الحديث، والحال أنه في الجهة الثانية من المشهد كان ثمة من يمارس إرهاباً عقائدياً آخر وفق فكرة التنصير التي ظلت تسمى في الجزائر بالحرب المضادة للحرب! لكن تلك الحرب كشفت في النهاية عن تورط العديد من الشخصيات الفكرية الفرنسية اليهودية، وأيضاً تورط الكنيسة الكاثوليكية عبر شخص القس "جون مارك مانويل" الذي يعد واحداً من أكبر المنصرين في شمال إفريقيا، بعد أن كان مسؤولاً عن المركز المسيحي في السنغال وعدد من الدول الإفريقية وآسيا الشرقية، استقر مانويل في الجزائر عام 1989م، هو الذي يعد نفسه جزائرياً بحكم مولده فيها عام 1944م في منطقة القصبة في قلب الجزائر العاصمة. <BR><BR>ترأس مانويل في بداياته جمعية الكنيسة الكاثوليكية في عدد من الدول منها المغرب وموريتانيا قبل أن يعود إلى الجزائر ليتزعم المركز الثقافي المسيحي الذي كان يحمل اسماً معروفاً "مركز الثقافة الدينية"، والذي كان ينشط بشكل شبه سري في الثمانينات في العاصمة الجزائرية.<BR>كان الإقبال على هذا المركز كبيراً؛ لأنه كان يعرض خدمات مهمة، مثل فتحه للمكتبة الكبيرة التي كانت تضم عشرات العناوين المهمة، بالإضافة إلى مساعدة الطلبة على توفير ما يحتاجونه من مراجع بالفرنسية، ناهيك على أن المركز سرعان ما صار يتعامل أيضاً مع موضوع " التأشيرة" (Visa)، وتوفيرها للطلبة الراغبين في مواصلة دراستهم في فرنسا تحديداً.<BR>كان المركز أيضاً ينتشر عبر فروع أخرى أخذت مسميات كثيرة وصارت أيضاً مسايرة للتغييرات السياسية في الجزائر، بحيث إن وجود العديد من الجزائريين تحت سقف البطالة والفقر والتهميش ساهم في جعل مانويل مناصراً (للبسطاء) على الأقل من مكانه، إذ إنه استطاع أن يوفر ما يساوي 5000 تأشيرة دخول إلى فرنسا لـ"أصدقاء" المركز من الشباب الجزائري، كما أنه ساعد حوالي 3000 شاب على تغيير جنسيتهم ودينهم معاً! <BR><BR>يقول السيد نور الدين ميرون (مختص في تحليل ظاهرة التنصير في الجزائر): " إن أهم أسباب نجاح هؤلاء المنصرين في مهمتهم إلى حد ما هو غياب الردع الحقيقي من السلطة وبالضبط من وزارة الشؤون الدينية التي تعتبر الغائب الأكبر في هذه الإشكالية، من جهة أخرى فإن الفقر والبطالة ساهما في جعل الحلم الأوروبي سبباً في البحث عن تحقيقه ولو على حساب الجنسية أو الدين"، وهو ما تسببت فيه الحرب الأهلية الجزائرية طوال العشرية الماضية، والتي جعلت العديد من "ضحايا العنف السياسي" يلجؤون إلى السفارة الفرنسية لتغيير جنسيتهم علانية، وبالتالي جعل العديد من الشباب يسقطون في فخ الـ"بديل" الذي طرحته المراكز التنصيرية في الجزائر على شكل: "مسيحية = جنسية ووظيفة أو راتب مستقر!" ناهيك على أن تلك المراكز التنصيرية ساهمت في نشر الأكاذيب عن الوضع في الجزائر، بتوجيه الاتهام إلى الإسلام بأنه دين إرهاب ومجازر وليس دين بناء سلام! ثمة أيضا ما يسمى في الجزائر بالـ"الإعلام التنصيري" والذي نجح في فتح قناة إذاعية تبث بنظام "الـ إف إم" من فرنسا والجزائر، قبل أن يتم توقيفها من الجزائر لتستمر بثها من فرنسا، وهي تبث بالفرنسية وبالعربية والأمازيغية (البربرية) اللغة الأولى في منطقة القبائل، وقد كان وراء هذه القناة عدد من المثقفين الفرنسيين من أصل يهودي أهمهم " جيرالد تروسيه" الذي اعتبر الأب الروحي للتنصير الإعلامي في الشمال الإفريقي، والذي يتزعم أيضاً الصندوق الثقافي الفرنسي المعروف أيضاً بالصندوق المسيحي، والذي يعرف بتمويله سنوياً لأهم المراكز المسيحية والداعمة للمسيحية في الجزائر بأموال ضخمة تأتي من العديد من الدول أولها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبلجيكا ومن الولايات الأمريكية أيضاً، ولعل الهدف الرئيس كان منطقة القبائل، باعتبارها منطقة مختلفة عن بقية المناطق من حيث مطالب حركاتها النشيطة، كالمطالب اللغوية الداعية إلى اعتبار الأمازيغية لغة رسمية (وهو المطلب الذي صار رسمياً فعلاً منذ ثلاثة أعوام) ولم يقتصر الأمر على اللغة فقط ، بل أن زعيم الحركة الاحتجاجية القبائلية طرح قبل سنة جملة من المطالب التي اعتبرها الشعب الجزائري غريبة جداً. <BR><BR>أهم تلك المطالب جعل السبت والأحد يومين لنهاية الأسبوع بدل الخميس والجمعة! وكذلك الحق في العقيدة وهو المطلب الذي أثار الجدال الواسع على المستويين السياسي والإعلامي في الجزائر، لأن الحق في العقيدة يعني ببساطة الحق في المسيحية، بالخصوص بعد أن تم حجز آلاف الأشرطة السمعية المسيحية بالعربية والفرنسية والأمازيغية وآلاف أخرى من الأناجيل في قرية من قرى القبائل التي يقال: " إن مراكز مسيحية تعيل أفرادها من الأسر الفقيرة" في غياب الدعم المالي من جهات رسمية محلية! <BR><BR><font color="#0000ff">كنت مسلماً!</font><BR>من أهم من التقينا بهم في سياق بحثنا عن "الحقيقة التنصيرية" في الجزائر، هو "إيدير" شاب يشارف على الأربعين من العمر، حاصل على ليسانس في الإدارة وبقي بلا عمل لمدة تزيد عن العشرة أعوام. يلقبه الجميع باسم "الرومي" الذي يعني في الجزائر "الأوروبي"! ينشط بشكل يراه طبيعياً منذ أن صار له محل لبيع الألبسة النسائية. يرتاد محله العشرات من الزبائن يومياً سألناه كيف ارتددت عن الإسلام؟ فرد:" في الحقيقة كنت أعيش واقعاً صعباً. الخوف والرعب والقتل اليومي في كل مكان في بلدتي الصغيرة في أعالي مدينة بجاية (في القبائل الصغرى). مرة التقيت صدفة بشخص أصبح صديقاً لي. عرف بكل مشاكلي واقترح مساعدتي. أعارني المال واقترح أن أنظم إليه في عمله، ثم بدأ يعرفني على المسيحية وبدأ يأخذني معه إلى مناطق لم أكن أعرف بوجودها، فيها كنائس وشعائر مسيحية، والتقيت بقس أقنعني أن السلام الروحي موجود في المسيحية فقررت أن ألتحق بهم، لأجل أن أغير حياتي ! سألته: هل تغيرت حياتك ؟ رد: " أصبحت صاحب محل، تزوجت من مسيحية ولي طفلة!" <BR><BR>مشهدية المسيحية في الجزائر مرتبطة بالجانب الاجتماعي والمادي معاً، ولهذا الذين يدعون إلى المسيحية يفعلون ذلك بمقابل مادي، بحيث إن الداخل إلى النصرانية يتحقق له دائماً نفس الشيء: يصبح مستقل مالياً، وبالتالي يكون له حق الحصول على الجنسية، وعلى تأشيرة الدخول إلى فرنسا أو إلى أي دولة أوروبية بسهولة شديدة، وبالتالي يحصل على إعانة مالية منتظمة بموجب "ديانته" الجديدة التي يرى العديد من الملاحظين أن الدخول إليها كالدخول إلى وظيفة، أي لمجرد الحصول إلى راتب! بمعنى أن الأسباب التي تقف وراء ارتدادهم هي أسباب مالية محضة.<BR><BR>لكن الغريب في الأمر هو أنه في الوقت الذي يصبح فيه التنصير في الجزائر بهذه الحدة والخطورة، نجد العديد من الفرنسيين يدخلون إلى الإسلام، ففي إحصائية نشرها المكتب الإعلامي للسيد أبوبكر الجزائري من مسجد باريس فإن 1390 شاباً فرنسياً اعتنقوا الإسلام بين عامي 2003/2004م، بينما أشارت دراسة جزائرية أن أكثر من 15.000 جزائري اعتنقوا المسيحية منذ عام 1993م إلى يومنا وهي أرقام يعتقد البعض أن الحقيقة أكبر منها بكثير!<BR><BR>--------------------- <BR>*كاتبة وصحفية جزائرية <BR><BR><BR><br>