بعد ثورة "الحثالة": الفرنسيون يثورون على فرنسا
21 ربيع الأول 1427

مشروع قانون عمل جديد قيل إنه إصلاحي على الرغم من أنه كان منذ البداية محل نقد كبير من قبل فعاليات سياسية و اقتصادية كثيرة. رئيس وزراء متردد في مقابل رأي عام متذمر طليعته شباب تزداد راديكاليته مع فجر كل يوم جديد. هذا هو ملخص الواجهة السياسية في فرنسا في الأيام الأخيرة بمعنى أننا نستطيع أن نلحظ أن كل توابل الأزمة الحكومية ماثلة أمامنا.<BR>من أشهر الأمثلة الساخرة التي يتداولها الفرنسيون قولهم: إنه لا يمكن أن نتعلم أبدا من التاريخ، و فعلا فإن عددا كبيرا من الحكومات الفرنسية المتعاقبة، من اليمين و اليسار على حد سواء، حاولت في مرات عديدة أن تعمل على تمرير إجراءات قانونية تطويرية تمس قطاع الشباب هناك بشكل خاص من إجراءات تدخل في نطاق المنظومة التربوية وصولا إلى قوانين عالم الشغل و لعل في قانون "عقد التوظيف الأول" خير دليل على "متلازمة الفشل" هذه التي لفرنسا معها حكاية طويلة.<BR>في البدء كان الـ CPE –الحروف الأولى من العبارة الفرنسية Contrat de Première Embauche أي عقد التوظيف الأول- الذي اقترحه (رئيس الوزراء) دومينيك دوفيلبان، نسخة مكررة من ذلك العدد الكبير من القوانين المتعلقة بتنظيم نشاطات التربص أو تشغيل الشباب التي تقدمت بها الحكومات السابقة على مر الخمس و عشرين سنة الماضية للشباب المتخرج من النظام الدراسي و هي وظائف متدنية الأجر، ثانوية و لا تليق بشباب جامعي التأهيل بمعنى أن الدولة كانت ملزمة على التدخل في قضايا الضمان الاجتماعي و التأمين و ما إلى ذلك.<BR>أما بالنسبة للمشروع الحالي فإن رئيس الوزراء على ما يبدو، أراد أن يجتهد فجاء اجتهاده بحل بعيد عن المنطق كثيرا لأن المشروع الذي تقدم به يبيح لأي من رؤساء المؤسسات أن توظف الشباب الذي لم يبلغ بعد سن السادس و العشرين، أن يقوم بتسريح أي منهم من غير الحاجة إلى أن يشرح أسباب التسريح في مدة لا تتجاوز العامين و هذا ما كان رئيس الوزراء يعتقد أنه سوف يساهم إلى حد كبير في التخفيف من وطأة طلبات العمل المتزايدة بشكل مقلق لأن هذا القانون كان يفترض أنه سوف يوجد سنويا أكثر من 350 ألف منصب شغل جديد بمعنى أنه سيكون متنفسا كبيرا للحكومة التالية على الأقل. <BR>في هذا الإطار، تناولت الصحف الغربية الموضوع بكثير من التوسع و التحليل فالتظاهرات الطلابية هذه جاءت بعد أشهر قليلة من تلك التظاهرات العنيفة التي شهدتها المدن الفرنسية في الخريف الماضي و التي سارع (وزير الداخلية) نيكولا ساركوزي -اليهودي من أصل مجري- وقتها إلى نعت أصحابها بالحثالة و الأوباش و كل ما إلى ذلك من أوصاف أريد لها أن تعطي ثورة الضاحية أبعادا سياسية حتى يمكن التعامل معها وفق منطق المؤامرة و هذه أمور توضحت الآن و برزت معالمها بشكل لا غبار عليه.<BR>و على الرغم من أن تدخل الرئيس جاك شيراك كان منتظرا إلا أن ما قاله على القنوات الفرنسية يوم 31 من شهر آذار/مارس الماضي لم يكن في الحقيقة في المستوى الذي كان يتوقعه المراقبون على الأقل و لأجل هذا فإن الصحف العالمية صبت جام غضبها على شيراك و في هذا الصدد قالت صحيفة البايس الإسبانية: "إن موقف الرئيس شيراك ساهم إلى حد بعيد في تعميق المشكلة على عكس ما أراد هذا الأخير الذي كان يرغب في أن يلعب دور الموازن" و هذا الموقف الذي خرجت به صحيفة العاصمة مدريد جاء مجانسا لموقف الصحيفة البلجيكية لوسوار التي كتب محررها يقول: "إن مداخلة شيراك المتلفزة و التي قالت الإحصاءات الباريسية أن تسعة أعشار الفرنسيين قد تابعوها لم تتمكن في الواقع من أن تقنع أحدا، لا الفرنسيين و لا حتى غير الفرنسيين".<BR>صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية جاء موقفها على عكس الصحف الأوروبية فهي حاولت الدفاع عن موقف شيراك فلقد كتبت تقول: "لقد وقف الرئيس شيراك الموقف الصحيح حتى و إن لاحظنا أن أفواج المتظاهرين قد سارعوا إلى رفض مقترحاته بمعنى أنه يتعين عليه أن يعمل مستقبلا على أن يقنع هؤلاء الغاضبين بمدى نجاعة هذا القانون" و هنا تقول الجريدة الأمريكية الكبرى: "إن التحدي المستقبلي لشيراك سيكون بلا شك حماية الإصلاح".<BR>على هذا الأساس تعد النيويورك تايمز أن موقف الحكومة الفرنسية هو محاولة صحيحة في سبيل تطوير المنظومة القانونية التي تحكم سوق العمل هناك بمعنى أن الجريدة هنا تورد لنا اعترافا ضمنيا بفشل النموذج الفرنسي في تسيير الجبهة الاجتماعية على عكس ما سارعت معظم العناوين الصحفية إلى تأكيده قبل أشهر قليلة حينما تعلق الأمر وقتها بثورة غير الفرنسيين.<BR>صحيفة لوسوار البلجيكية في الواقع، كانت أكثر وضوحا من غيرها حينما طرحت عمق المأزق الذي تعيشه الحكومة الفرنسية فهي كتبت تقول: "لقد كان يفترض على الرئيس شيراك أن ينتهز مداخلته مساء الجمعة 31/3 لكي يعلن عن حل الجمعية الوطنية -البرلمان الفرنسي- أو حتى إعلان تنحيه عن الرئاسة" و في هذا الكلام إشارة واضحة إلى الموقف الذي خرج به الجنرال ديغول في العام 1968 حينما قرر مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة وقتها أن يستقيل من منصبه لمجرد ثورة مماثلة خرج بها الطلبة و الشباب لأجل معارضة سياسة رمز التاريخ الفرنسي الحديث ليقرر هذا الأخير مباشرة و في خطوة فاجأت كل المتابعين للشأن وقتها أن يتنحى و يضع الجميع أمام مسؤولياتهم و الصحيفة البلجيكية حينما أوردت الكلام أعلاه إنما أرادت أن تذكر شيراك نفسه بموقف ديغول بما أن شيراك هذا يعتبر الجنرال مرجعه و ملهمه فضلا على أنه لا يدخر سبيلا حتى في التشبه بديغول كلما سنحت له الفرصة بذلك.<BR>أما الجريدة السويسرية لوطون فلقد أوردت مقالا أسهبت فيه بالتحليل قالت فيه: "إذا كان الرئيس شيراك لم يخرج بموقف معارض لمشروع حكومته فهذا يعني أنه المسئول الأول عن هذه الحالة المعقدة التي بلغتها القضية و هذا ملخصه أن النازل بقصر الإليزيه منذ إحدى عشر سنة لحد الساعة، لم يتمكن أن يقنع مواطنيه بضرورة مباشرة إصلاحات فحين تولى شيراك المسئولية كان قد وعد ناخبيه وقتها أنه سوف يقلص من البطالة و سوف يخفف من عجز الموازنة و لكن ما نلحظه اليوم هو عكس كل هذه الوعود فهنالك بطّال بين كل ستة فرنسيين و أما النمو فهو منعدم فضلا على أن المديونية العمومية قد تجاوزت الحدود التي أقرها اتفاق التحول نحو اليورو ثم إن شيراك كان قد خسر قبل اقل من عام الاستفتاء حول الدستور الأوروبي" و ليس هذا كل ما في الأمر فلقد أشارت إحدى الإحصاءات الأخيرة إلى أن الفرنسيين هم أكثر الأوروبيين معارضة لمشاريع السوق الأوروبية المشتركة و ما تفرضه هذه الأخيرة من ضرورات المنافسة الحرة بين دول الاتحاد بسب أن هؤلاء الفرنسيين يدركون أن اقتصاد بلدهم بات حاليا في وضع أوهن من أن ينافس الاقتصاد الألماني مثلا.<BR>جريدة الإنترنيشيونال هيرالد تريبيون من جهتها أرادت أن تتطرق للقضية من جانب منطق الربح و الخسارة فأوردت تقول: "إن الرابح من هذه الأزمة الفرنسية هو بلا شك (وزير الداخلية) نيكولا ساركوزي زعيم حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، فهذا الرجل على الرغم من منصبه إلا أنه لم يرتكب لحد الساعة أي خطأ و إذا ما تمكن مستقبلا من أن يقنع زعماء النقابات و ممثلي التنظيمات الطلابية بضرورة وقف التظاهرات فسيكون قد تمكن من أن يسجل خطوة كبيرة و جديدة صوب أمله الأكبر و الذي هو الفوز بمنصب الرئيس خلال الانتخابات القادمة لأن حزبه لن يجد مرشحا غيره وفق هذه المعطيات" و هذه الوضعية بطبيعة الحال لن تكون في صالح (رئيس الحكومة) دوفيلبان الطامح هو الآخر لذات المنصب خصوصا و أن تدخل شيراك الأخير قد أعطى الانطباع بأن كبش الفداء قد يكون رئيس الحكومة نفسه إذا ما لاحظنا أن صاحب الإليزيه قد فوض وزير الداخلية مهمة التفاوض مع ممثلي المتظاهرين بما يعني بدء الاستعداد لوضع دوفيلبان على الرف و هذا دأب كل رؤساء الجمهورية الفرنسية منذ عقود طويلة حتى قيل أن منصب رئيس الحكومة في باريس هو أوهن منصب قد يبلغه أي رجل سياسة في فرنسا.<BR>ملخص القضية أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة فشلت، الواحدة تلو الأخرى، في أن تطرح مشاريع إصلاح حقيقية و تطويرية و إذا ما أضفنا للحالة الفرنسية هذه، عقلية "عالمثالثية" واضحة ما زالت تسكن رؤوس المواطنين هناك، فإنه سيكون في إمكاننا أن نقول ختاما لكل هذا: إن فرنسا و على الرغم من أنها إحدى نقاط ارتكاز الدبلوماسية العالمية ما زالت تعيش مشكلات لا تليق بدولة هي في قوتها فهل يعني هذا أن مذهب "الفوضى الخلاقة" الذي أبدعته الأدبيات الأطلسية الحديثة لا يقتصر على منطقتنا فحسب؟<BR><br>