من يخاف ممن؟؟
26 ربيع الثاني 1429
د. محمد يحيى

توالت في الآونة الأخيرة أحداث عديدة تدل في مظهرها على أن هناك هجمة غربية شرسة على الإسلام والمسلمين؛ فمن إعادة لنشر ما سمي الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعميمها لتنشر في معظم صحف ومجلات أوروبا حتى في أكثر الدول تفاهة في تلك القارة، إلى دعوات رسمية تطلق في بلدان مثل ألمانيا والنمسا وغيرها بغرض نشر هذه الصور إما نكاية في المسلمين، وإما بزعم دعم حرية التعبير عن الفكر والرأي.
ومن ناحية أخرى وجدنا بابا روما يقوم بتنصير صحفي من أصول مصرية يعمل نائبا لرئيس تحرير جريدة كورير ديلا سيرا الإيطالية واسعة الانتشار وهو معروف بتأييده للحركة الصهيونية ولـ"إسرائيل" وبهجومه على الإسلام والمسلمين.
وقيل إن هذا الصحفي كان قد تنصر سراً منذ سنوات طويلة إلا أنه آثر في ذلك الوقت بالذات أن يعلن عن قراره هذا دون أن يعرف أحد السبب في تنصّره العلني بعد سنوات من تنصر سري، رغم أنه في بلد لا يمنع فيها أحد بالطبع من التنصر وإعلان ذلك علنا.
ومن ناحية ثالثة وجدنا في بريطانيا لغطا يدور بين دعوة أطلقها على استحياء رئيس أساقفة الكنيسة الإنجيلية يرى فيها أنه لا مانع من إدماج بعض تعاليم الشريعة الإسلامية في القوانين البريطانية، ولعله كان يقصد تلك التعاليم المتعلقة بالأحوال الشخصية أو ربما بتحريم بعض المأكولات والمشروبات، يقابلها دعوة أخرى أطلقتها بعض الشخصيات البريطانية تعارض تماما ما ذهب إليه رئيس الأساقفة الإنجيلي وترفض أي إدماج للشريعة الإسلامية أو حتى جوانب محدودة منها في القوانين البريطانية، بل وتنطلق من هذا إلى رفض حتى إقامة المساجد في بريطانيا باعتبار أن إقامة المساجد هي عادة السبيل الذي يمهد للحديث عن الشريعة الإسلامية أو عن إدخال متزايد للدين الإسلامي في جوانب الحياة البريطانية.
هذه فقط جوانب ثلاثة من أحداث وقعت في الأيام والأسابيع الأخيرة قد يراها البعض أنها تصعيد للحملة ضد الإسلام وقد يرى فيها آخرون إعلاناً من جانب الغرب بقوته واستعلائه في مقابل ضعف المسلمين وتهافتهم وانشغالهم بردود فعل عقيمة لا تجدي فتيلاً في مواجهة أي شيء.
ولكن يمكن أن يرى المراقب المتتبع والمدقق في هذه الأمور علامات ليست على قوة الغرب ولا على هجمته على العالم الإسلامي، بقدر ما هي علامات على ضعف وتهافت الغرب إلى حد مذهل وعجيب. خذ مثلاً ذلك التعميد المريب واليائس لذلك الصحفي الذي تنصر سراً منذ سنوات ثم اكتشف فجأة أنه بحاجة إلى أن يتنصر علناً وفي مناسبة عيد الفصح وعلى يد بابا روما شخصياً قبل أي رجل دين آخر. لقد جاء هذا التنصير الذي رأى فيه الكثيرون حقا بمثابة استفزاز للمسلمين جاء قبل يوم واحد فقط من إعلان صدر عن الفاتيكان يقول فيه إن أعداد المسلمين في العالم تزيد عن أعداد الكاثوليك برقم قد يتجاوز اثنين بليون شخص.
ومعنى هذا أن الفاتيكان الذي يراه البعض مشغولاً بالحوار مع الحضارات ومع الأديان ومع الثقافات ومع الإسلام هو في الواقع مشغول بشيء آخر تماما، إنه مشغول بحساب أعداد أتباعه وهل يزيدون أم ينقصون، وقد هاله وأفزعه أن يراهم ينقصون كثيراً عن أعداد المسلمين، وأن يرى الكاثوليكية التي كانوا يتفاخرون بأنها الدين الأول. إن لم يكن الأوحد في العالم، تتراجع إلى المرتبة الثانية بعد المسلمين ولعلها تتراجع إلى المرتبة الثالثة بعد البوذيين أو الهندوس إذا كان تعميد الصحفي المتنصر، وهو نكرة تافه لا معنى له، قد جاء لكي يدلل الفاتيكان على أنهم لا يخسرون أرضاً أمام المسلمين بل على العكس فإنهم بحالة جيدة وإنهم ينتشرون وينصّرون المسلمين أيضا، لاسيما وقد جاء هذا التعميد وسط تعميد عشرة أفراد من ديانات مختلفة اعتنقوا الكاثوليكية، إلا أن التعميد في حد ذاته وتركيز الأضواء عليه وعلى ذلك الصحفي النكرة يدل على أن الفاتيكان يعاني حالة من حالات اليأس والإفلاس إلى درجة أنه يقيم الدنيا ويقعدها ويقيم الاحتفالات وينشر في الإعلام العالمي صوراً لمجرد تعميد عشرة أفراد من بينهم مسلم واحد مشكوك في نصرانيته قبل أن يكون مشكوكاً في إسلامه لاسيما وإن ميوله الأساسية كما يعلن هي مع أبناء العم صهيون. أما حكاية نشر الصور الكاريكاتورية إياها فهي حكاية قد أصبحت تدل ليس على استفزاز الغرب للمسلمين بقدر ما تدل على مدى الضحالة والتفاهة والإفلاس الذي وصل إليه الغرب. فهؤلاء الذين نقول عنهم إنهم أسياد العالم وأسياد الحضارة والمتقدمون.. إلى آخر ذلك من الأوصاف، لا يجدون ما يشغلهم سوى لعبة من لعب الأطفال كما يفعل بعض الأطفال الصغار عندما يخاصمون بعضهم البعض فيأخذون في إهانة بعضهم البعض بالسباب والشتائم، فهذا هو الغرب لا يجد ما يواجه به الإسلام أو ما يعبّر به عن غيظه من الإسلام أكثر من رسوم كاريكاتورية تافهة ولا يجد حتى وفرة من هذه الرسوم بل لا يجد أكثر من بضعة رسوم لا يمل من تكرارها وإعادتها، وبل ويحوّل الموضوع إلى قضية مضحكة عندما يخرج الساسة العظام في أوروبا الذين ترتعد فرائص الحكام خوفاً منهم لكي يعلنوا أن مهمتهم المقدسة هي الدعوة إلى نشر وإعادة نشر ثم إعادة نشر تلك الرسوم الكاريكاتورية في كل صحف ومجلات ومطبوعات القارة الأوروبية. وإذا كانت حكاية البابا مع الصحفي النكرة وحكاية الساسة الأوروبيين مع الرسوم الكاريكاتورية تدل على إفلاس في الغرب وصل إلى حدود متدنية تبعث على الضحك بل تثير الإشفاق والأسى عليهم وعلى ما وصلوا إليه، بعدما كانوا يتصورون أن لهم القوة والمنعة والسيادة على العالم، فإن ما يحدث في إنجلترا من دعوة رفعها كبير أساقفة الكنيسة الإنجيلية وهي الكنيسة الرسمية هناك إلى إدماج جوانب محدودة من الشريعة الإسلامية في القوانين البريطانية هي حركة تدل على أمر آخر. إنها تدل على قوة الإسلام وعلى أنهم هم الآن بدلاً من أن يعلنوا الحرب صريحة على الإسلام لا يجدون مناصاً وعلى لسان أكبر زعيم ديني في بريطانيا، وكنيسته لها حضور قوي وطاغ وكاسح في أفريقيا وفي أمريكا الشمالية، تقول هذه الدعوى إنه لا مانع لديهم من أن تدمج في القوانين الرسمية عندهم بعض تعاليم الشريعة الإسلامية. ومن الواضح كما قلت آنفا إنها تنطبق على مجال الأحوال الشخصية وعلى مجال المحرّمات من الأطعمة والأشربة. وعندما تصدر الدعوة من جانب رجل في مرتبة كبير الأساقفة فإنها تصبح أمراً جللا وله معنى خطير لأنه يدل على اعتراف بصلاحية الشريعة الإسلامية وعلى اعتراف بأن أوضاع المسلمين الذين تكثر أعدادهم في المجتمع البريطاني هي أوضاع لن تنصلح إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية عليهم، كما أنها اعتراف مذهل بصلاحية هذه الشريعة على الأقل في جوانبها المتعلقة بالأحوال الشخصية وذلك في وقت تكثر فيه الهجمة على تلك الجوانب بالذات في العالم الإسلامي فلا يكاد يمر شهر إلا ونرى بلداً إسلاميا أو آخر قد أدخل قوانين تحرّم وتجرّم جوانب الشريعة الإسلامية في مجال الأحوال الشخصية مثل تحريم الطلاق وتحريم تعدد الزوجات وتحريم حق الرجل في القوامة على أسرته وفي حضانة أطفاله وما إلى ذلك .أما المعارضة التي صدرت لتلك الحركة فإنها تدل على أن الخوف من الشريعة الإسلامية متأصل في المجتمع البريطاني ولذلك فلا يسع المرء إلا أن يختم بقوله أيهم يخاف الآن من الآخر؟.. هل هم المسلمون الذين يخافون من الغرب أم الغرب الذي يخاف من المسلمين؟ إن بعض المسلمين بلا شك يخافون من الغرب وهم الحكام المعتمدون في بقائهم على نوايا الغرب الطيبة تجاههم. أما الغرب فهو الذي يخشى الإسلام وتخشى الإسلام فيه نخبه القوية الكبيرة مثل الكنيسة الأنجليكانية أو الكنيسة الكاثوليكية أو الساسة في بلاد أوروبا القوية مثل ألمانيا وفرنسا.