هل لا يزال قصف أمريكا لإيران.. قائمًا؟
23 جمادى الأول 1429
طلعت رميح

عقب مغادرة الرئيس الأمريكي جورج بوش للمنطقة، ذكرت صحيفة صهيونية، أن بوش أبلغ القيادة الصهيونية أنه مايزال مصممًا على قصف إيران قبل انتهاء ولايته، فسارعت مصادر رسمية أمريكية إلى نفي الأمر.
من جانب آخر، فقد تكاثرت المؤشرات على دخول المنطقة حالة من التسويات "التفاوضية"، بما يقلل من احتمالات تغيير الولايات المتحدة الاتجاه، بإشعال حرب جديدة في المنطقة، خاصة وأن كل الملفات التي تشهد هذه الحالات التفاوضية، هي بدرجة أو بأخرى محل صراع بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، إذ كيف يمكن تصور أن تكون التغيرات الجارية في المنطقة، دون موافقة أمريكية.
فهناك التفاوض السوري – "الإسرائيلي" عبر وساطة وضيافة تركية، كما هناك محاولة لإبرام اتفاق تهدئة بين المقاومة في غزة والكيان الصهيوني، إضافة إلى أن أحداث لبنان قد انتهت في طبعتها الأخيرة إلى اتفاق وقع في قطر، يفترض أنه "يعطي راحة" مرحلية – على الأقل – لحالة الصراع بين الأطراف اللبنانية، وكذا الأوضاع في العراق باتت على درجة مشابهة بين الحكومة العراقية – تحت الاحتلال – والتيار الصدري؛ إذ وفق الاتفاق الموقع أخيرًا، دخلت قوات الحرس الحكومي إلى مدينة الثورة (الصدر)، لتنهي حالة الصراع الحربي بين الطرفين – بما أعطى قوات الحرس الحكومي الفرصة للهجوم على محافظة الموصل – وبما فتح الطريق إلى إجراء الانتخابات المحلية في مناطق سيطرة ميليشيا الصدر.
كما في جانب الملف النووي الإيراني، الذي طالما زكى احتمال توجيه ضربة أمريكية لإيران، باتت الأوضاع تميل إلى "التهدئة"؛ إذ تقدمت "الدول الكبرى" بسلة من الحوافز الجديدة لإيران، كما في المقابل، تقدمت إيران بمقترحات، تجري دراستها من قبل الأطراف الضاغطة بشأن هذا الملف.
فهل انتهت الأوضاع التي كانت تدفع للتقدير بأن لا حل للإشكاليات والملفات بين إيران والولايات المتحدة، إلا بالحرب، أو بالدقة: هل انتهى العزم الأمريكي على قصف إيران، وانتهت قصة توجيه ضربة أمريكية إجهاضية لقوة إيران المتنامية على حساب الدور والمصالح الأمريكية في المنطقة، أم أن ما يجري هو تحول للتهدئة المؤقتة بين الطرفين؟، وهل يمكن القول في ظل كل هذه المؤشرات بأن الحرب باتت أقرب وليس أبعد باعتبار أن الولايات المتحدة، تواصل سيرها في استراتيجية توسيع رقعة الصراع في المنطقة، وجمع شمل الحلفاء ضد إيران، انتظارًا للخطة الفصل العسكرية؟.

طبيعة الصراع.. وتطوره
يبدو الأصل هو أن النظر إلى طبيعة الصراع، أو بالدقة إلى حدة التناقض في الصراع بين أي طرفين، هي ما يحدد احتمالات تحوله إلى الحالة الحربية، حيث ليس كل صراع أو أزمة تفترض اللجوء للوسائل الحربية لحسمها؛ إذ كثير من الأزمات والصراعات يجري حسمها دون استخدام السلاح.
وواقع الحال، أن الولايات المتحدة لم تنظر إلى إيران كعدو استراتيجي لها حتى وقت قريب، بل كانت تنظر للدور الوظيفي لإيران، باعتباره يجري ضمن إطار "الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة"، وفي داخل أهداف الولايات المتحدة لا في مواجهتها و في معاداة معها.
كان ذلك قائمًا في أثناء وجود الشاه، وظل على هذا النحو إلى فترة قريبة.
لقد نظرت الولايات المتحدة لإيران على أنها دولة عازلة (جغرافيًا وحضاريًا وسكانيًا) بين الاتحاد السوفيتي والعالم العربي، كما نظرت إليها كدولة "مخوفة" لدول الخليج بما يجعلها في حاجة ماسة إلى الوجود والدور والسلاح الأمريكي، وكذا هي اعتبرت أن نقطة الأساس هي أن هذا الدور الوظيفي لإيران – العازل أو المخوف – يجري دون مطامح حقيقية على صعيد الدولة الإيرانية للتوسع ومزاحمة النفوذ والدور الأمريكي في المنطقة.
وهكذا سارت الأوضاع في ظل وجود الشاه، وحتى اندلاع ثورة الخميني، التي رغم شعاراتها حول الشيطان الأكبر ومعاداة أمريكا، لم تخرج "وظيفيًا" عن دورها في داخل الاستراتيجية الأمريكية.
جاءت ثورة الخميني لتطرح "خطة وفكرة واستراتيجية" تصدير الثورة، بما عمق دورها "التخويفي" في المنطقة، كما جاء اندلاع الحرب مع العراق ضمن إطار نفس هذا الدور الوظيفي.
وجاءت ثورة الخوميني، لتعمق قدرة إيران على الفصل بين الاتحاد السوفيتي والعالم العربي، باعتبار أن الشعارات "الإسلامية" التي قالت بها الثورة – بغض النظر عن حقيقتها – هي الحالة الأفضل لحالة الفصل هذه.
وخلال تلك الفترة، رأت الولايات المتحدة أن الخطر الإيراني أو الخروج الإيراني على دور إيران الوظيفي – في داخل الاستراتيجية الأمريكية عالميًا – يتأتى فقط من "النظرة التوسعية لإيران ارتباطًا بتطور عمليات التنمية والقوة العسكرية"؛ ولذا هي زكت مفاعيل الحرب العراقية الإيرانية، باعتباره حربًا تستنزف الطرفين وتعيدهما إلى داخل الحظيرة الأمريكية.
وهكذا ظل الحال، وفي إطاره وجدت الولايات المتحدة في إيران حليفًا لها خلال عدوانها على أفغانستان والعراق، أو أن الولايات المتحدة لم تجد ما يمثل خطرًا من مثل هذا التحالف.
لكن إيران غيّرت من بعد من دورها الوظيفي، وفي ذلك كان هناك ما يضر الولايات المتحدة، وما يزعجها، بما أحدث الأزمة الراهنة.
فقد طورت إيران من قدرتها، ومن مطامعها التوسعية، وطلبت دورًا لها في "الإقليم" بما وجدت الولايات المحدة ضارًا بنفوذها ووجودها و"مصالحها" في المنطقة، كما إيران صارت في وضع أقرب إلى التحالف مع روسيا، لتضعف الجانب الثاني من دورها الوظيفي السابق.
لكن ذلك لا يمنع أن تكون تلك التطورات في إيران قد أتت بعامل آخر وجدت الولايات المتحدة في مصلحتها. فبعد أن تحولت الولايات المتحدة إلى استراتيجية إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفق تغير الخرائط السياسية والجغرافية للدول، وجدت في الدور الإيراني، وفي إيران "القوية" على نحو ما، الصورة الأفضل لتحقيق أهدافها، باعتبار أن الدور الإيراني هو دور تفكيكي، أو هو الدور التفكيكي الأهم للدول العربية القائمة، والذي لا يمكن للولايات المتحدة ذاتها القيام به، وأن ذلك لا يمكن أن يجري دون إيران قوية.
هنا باتت الولايات المتحدة ساعية إلى تحديد حدود القدرة العسكرية والاقتصادية الإيرانية، عند الحد الذي تظل فيه دولة "مخوفة" للمحيط – دون قدرة على التأثير الاستراتيجي على مصالحها هي في المنطقة – وعند الحد الذي تلعب فيه دورًا تفكيكيًا دون قدرة على "لملمة" ما يتفكك لضمه تحت سيطرتها.
وهو بات يحدد طبيعة الصراع في المرحلة الراهنة، بين إيران والولايات المتحدة، حيث تسعى إيران إلى أن يجري التفكيك لدولنا العربية "لمصالح أطماعها التوسعية"، بينما تحاول الولايات المتحدة أن يجري التفكيك لمصلحة خطتها الاستراتيجية هي، وهو ما يقتضي "إضعافًا" للقدرة الإيرانية المتطورة.
وذلك هو الأساس في حالة الصراع الراهنة، وتلك هي طبيعة حدوده.

المناورات والحرب
لكن عاملاً آخر طرأ على المعادلة، يتعلق بتدهور قوة ونفوذ ومكانة الاستراتيجية الأمريكية، وليس فقط بتطور القدرة الإيرانية. لقد تعاظم الدور الإيراني "التوسعي" في حد ذاته، بحكم التحالف مع الولايات المتحدة وإسقاط الخصوم المشتركين عبر غزو أفغانستان والعراق، بما جعل القوة الإيرانية "متفردة" بلا أعداء أقوياء في المنطقة، لكن قوة الولايات المتحدة ومشروعها في المنطقة قد تعرضا للتعثر والهزيمة، بفعل المقاومتين الأفغانية والعراقية ولدور حماس والجهاد، وبفعل نتائج الحرب الصهيونية على لبنان في صيف عام 2006 .
وهنا غدت الولايات المتحدة أمام ثلاثة خيارات، أولهما: القبول بالهزيمة الاستراتيجية الفعلية في المنطقة؛ بما يحدث تغييرات خطيرة على الصعيد الاستراتيجي لقدرة ومكانة ودور ومصالح الولايات المتحدة، لمصلحة كل القوى الرافضة للوجود الأمريكي، وبما يضعف الدول المتحالفة أو الصديقة للولايات المتحدة ويهدد بحدوث تغيرات حادة في الوضع السياسي العام في المنطقة، وثانيهما: إعادة ترتيب الأولويات في المنطقة، استعدادًا لعمل عسكري جديد، يستهدف إضعاف التمدد الإيراني، دون المحازفة بتغيير الدور الوظيفي لإيران. أي، أن توجه ضربة إجهاضية للقدرة العسكرية والصناعية والاستراتيجية لإيران، دون الوصول بها إلى حالة التغيير المضاد ولدورها الوظيفي داخل الاستراتيجية الأمريكية. وثالثهما: ما أشار إليه تقرير بيكر – هاملتون، وما أتى به وزير الدفاع الأمريكي الحالي، من الجمع بين أنماط التفاوض والتفكيك، حيث جرت عمليات التفاوض حول العراق من خلال ما يُسمى باجتماعات دول الجوار، ومن خلال التفاوض الأمريكي الإيراني المباشر حول العراق. كما تأتي مختلف أعمال التفاوض والاتفاقات الجارية ضمن إطاره – والتفكيك للعلاقات في المنطقة، كما هو الحادث في كل الساحات الداخلية وفي علاقات الدول مع بعضها البعض.
لكن، هل يعني ذلك انتهاء أو انتفاء خيار قصف إيران؟.
قصف إيران.. وضروراته
في الأغلب والأعم فإن ما يجري أمريكيًا و"إسرائيليًا"، لا يجري بعيدًا عن خطة قصف إيران، أو بالدقة عن خطة إضعاف القدرة الاستراتيجية لإيران، وإعادتها إلى دورها الوظيفي السابق، في داخل الاستراتيجية الأمريكية.
ما يجري الآن هو تحقيق حالة من الإجماع أو التوافق الدولي حول قصف إيران، سواء لأن الولايات المتحدة لم يعد بمقدورها تكرار تجربة العراق، من زاوية تقرير العمليات الحربية وإنفاذه دون غطاء دولي، كما أن ما نشاهده في المنطقة هو في الأغلب تحضير لمسرح العمليات سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا وجماهيريًا، حيث لا يمكن للولايات المتحدة دخول حرب في المنطقة ستأتي نتائجها بخسائر ليست بالقليلة على أطراف عربية وإقليمية، دون أن تكون تلك الأطراف مستعدة أو جاهزة لتقبل الخسائر، أو دون إقرار منها بخطورة تحرك إيران وفق حالة القوة المتصاعدة الجارية لديها على المحيط العربي.. استراتيجيًا.
كما أن ما يجري يستهدف وتفعيل لعوامل الاختلاف والصراع في داخلها، لإضعاف قدرة المجموعة الحاكمة حاليًا على حشد المجتمع الإيراني في المواجهة، خاصة بعد فشل "الإصلاحيين" في إضعاف سطوة وسيطرة تلك المجموعات الحاكمة خلال الانتخابات الأخيرة.
متى العمل العسكري
أغلب التكهنات تدور حول احتمالات أن تجري الضربة العسكرية الأمريكية لإيران خلال الشهور الثلاثة القادمة، استنادًا إلى تسريبات تظهر من هنا وهناك بين الحين والآخر.
كما يمكن القول بأن القوة العسكرية الأمريكية في الخليج والمنطقة، هي قوة قتالية جاهزة للقيام بالأعمال الحربية المستهدفة، وأن التغيرات التي جرت في القيادة المركزية الأمريكية، قد جرت في اتجاه تعيين قائد عسكري مؤيد لخطة قصف إيران.
لكن القدرة الأمريكية ليست وحدها في ميدان الفعل والقرار، إذ قرار الحرب هو حالة تعتمد على عوامل متعددة لا يحددها الطرف صاحب قرار الحرب وحده، بل يحددها الطرف الآخر أيضًا، وفي ذلك يبدو أن إيران ما تزال على خطتها السابقة، التي تستهدف عدم دفع الأوضاع إلى حالة الحرب، والعمل وفق استراتيجية "إضاعة الوقت"، وتقليل الاندفاع الأمريكي نحو الحرب، والتراجع والتقدم في توقيتات محددة، وتحقيق مكاب على الأرض دون دفع الطرف الآخر إلى صدام واسع.. إلخ.