سريبرينتسا الجرح الحي في الذكرى 13 للمجزرة
7 رجب 1429
عبد الباقي خليفة

 

مجازر سريبرينتسا تعد أكبر عار في تاريخ الأمم المتحدة

بحضور ما يزيد عن 50 ألف نسمة أحيت البوسنة الذكرى 13 لأكبر مجزرة من نوعها في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية ، وقد شاركت الجموع في تشييع 307 ضحايا من ضحايا المقابر الجماعية في سريبرينتسا لوحدها ومواراتهم الثرى للمرة الثانية بعد انتشالهم من المقابر الجماعية التي بلغ عددها قرابة  400 مقبرة ، وبذلك يبلغ عدد من تم دفنهم في مقبرة الشهداء ببلوتتشاري حتى الآن 3214 شهيدا ، من أصل أكثر من 10 آلاف نسمة قضوا في الابادة .

وقد بدأت عملية احياء الذكرى 13 للمجزرة بقراءة القرآن ، وترديد الاناشيد الاسلامية . بينما كانت السماء ملبدة بالغيوم وقطرات المطر تتساقط رذاذا وكأنها تشارك المكلومين والضحايا ذكرى مأساتهم . وكان المئات من المتطوعين قد شاركوا يوم 8 يوليو في المسيرة التاريخية ،والتي انطلقت من فيسوكو حيث وصلت إلى بلوتتشاري ، في 11 يوليو تحت شعار " مسيرة الشهادة .. طريق الحرية " وتبلغ المسافة التي يتم قطعها كاملة 105 كيلومترات، وهي تحاكي العذابات التي تعرض لها أهالي سريبرينتسا ممن نجوا من المحرقة سنة 1995 بعد وصولهم إلى المناطق المحررة في البوسنة آنذاك .

مشاهد الالم : تزامنا مع دورة الحزن السنوي على ضحايا تمت إبادتهم لأنهم مسلمون ،وسكت عن قتلهم لانهم مسلمون ،ولم يتم التدخل لانقاذهم لأنهم مسلمون أيضا. ففي الفترة ما بين 10 و19 يوليو 1995 م مارس الفاشيون الصرب الابادة على أوسع نطاق ، حيث قتل 10،748 مسلما تترواح أعمارهم بين 14 و78 سنة ، وتم تهجير ما يزيد عن 30 ألف إمرأة وطفل ، حقدا وغلا ، وذلك تحت أعين وأجهزة الامم المتحدة وحلف شمال الاطلسي والاتحاد الاوروبي وأميركا والعالم بأسره .

وكان المشرفون على مقبرة الشهداء في بلوتتشاري ،والمسئولون عن ملف سريبرينتسا قد "خلدوا "أسماء 8374 ضحية من ضحايا سريبرينتسا على جدار خارجي بالمقبرة وذلك يوم 6 يوليو 2005 م  . 

حديث المكلومين : كان أهالي الضحايا أكثر الناس شعورا بالالم في الذكرى 13 لمحرقة سريبرينتسا التي حضرها أكثر من 50 ألف نسمة . وقالت نييرة حسانوفيتش وهي تغالب دموعها " جئت لحضور عملية إعادة دفن زوجي محمود ،وكنت قد فقدت 12 فردا من عائلتي لم يتم العثور على أي منهم حتى الآن داخل المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها " وتابعت " بعد أن فقدت الأمل في العثور عليهم أحياءا أتمنى أن تكون لهم قبورا يمكنني زيارتها " وقال هاشم مالكيتش ( 84 سنة ) وقطع 105 كيلومترات على الاقدام في " مسيرة الشهادة .. طريق الحرية " إنه لم يشعر بتعب السفر وتقدمه في السن لانه كان يسر بروحه لا بجسده " كنت أسير بروحي و همتي وعواطفي وشجوني ولذلك قطعت هذه المسافة التي لا استطيع قطع عشرها دون تعب وكلل في سائر الايام الاخرى " .

شهادات الغربيين : وقال الكاتب حسن نوهانوفيتش ، الذي يتزعم شكوى أهالي ضحايا سريبرينتسا ضد الامم المتحدة وهولندا ،وصاحب كتاب مجزرة سريبرينتسا " المجزرة ظلت مستمرة في البوسنة منذ بداية الحرب حتى نهايتها لكنها عرفت أوجها في سريبرينتسا في يوليو سنة 1995 " .من جهته قال مساعد الأمين العام للامم المتحدة الاسبق ، دياغو انريك أريا ، إن " مجازر سريبرينتسا تعد أكبر عار في تاريخ الامم المتحدة " وأشار في تصريحات مزلزلة للصحافيين وموثقة حيث نقلتها صحيفة دنيفني أفاز البوسنية اليومية ،إلى إنه " يجب محاكمة جميع أعضاء الامم المتحدة ، وخاصة بريطانيا وفرنسا وروسيا والسكرتير العام السابق للامم المتحدة بطرس بطرس غالي ".وتابع " القوات البريطانية والفرنسية كانتا تراقب الاوضاع ،وكانتا على علم بما كان يجري لكنهما أخفتا الحقيقة . قالت الكاتبة الفرنسية " سلفي موتون " إن الشعب الفرنسي لم يكن يعلم بوجود إبادة وكانت الحرب في البوسنة تعرض عليه وكأنها حرب أهلية "واتهمت الامم المتحدة ب " الاستسلام بدل الدفاع عن حقوق الانسان وفي مقدمتها الحق في الحياة " واعتبرت ما حصل " أكبر خطيئة في تاريخ الامم المتحدة " .

شريط سريبرينتسا وبكاء الثكالى : كان لعرض شريط ذبح المسلمين في سريبرينتسا أمام القضاء ومن ثم نقله عبر المحطات التفزيونية قد آثار شجون المسلمين والانسانية في العالم وكانت تعليقات أهالي الضحايا مرة .. مرة جدا  " رايته ، كبدي ، أزمير ، كانوا يدفعونه ، وكان يلتفت ، رايت وجهه ، تذكرت اللباس الذي ارتداه  عندما ترك البيت ، والحذاء ، أطلقوا عليه النار ، رايته يسقط ، بعيني رايته ، رأيت  كيف قتل الاعداء ابني " . قالت هذه الكلمات نورة علي سباهيتش أم أزمير ابن السادسة عشر عندما قتله الصرب ، قالتها " للمسلم "  وهي تنتفض من البكاء فخرجت كلماتها كما هي في السطور السابقة . قالت إنها حقنت نفسها بابرة ضد الاغماء لتواصل مشاهدة مصرع ابنها على التلفزيون الذي نقل ما بث في قاعة محكمة لاهاي مباشرة . وقالت إن ابنها ولصغر سنه ظن أن الصرب لن يمسوه باذى لانه صغير السن " لكنهم لم يكونوا يفرقون بين كبير وصغير ورجل وامرأة  لان الجميع  مسلمون " وقالت إنها قبلته قبل الخروج من البيت وكان لديها شعور بأنها لن تراه مرة أخرى . و" بعد ذلك علمت أن الصرب اعتقلوه مع 12 طفلا آخر وحملوهم لمكان مجهول " وكان التشتنيك الصرب قد  نقلوا الاطفال والنساء إلى معتقل في زفورنيك وظلوا هناك مدة 4 أشهر قبل أن يقتلوهم جميعا وقد عثر على أزمير في مقبرة جماعية ودفن في مقبرة الشهداء ببلوتتشاري في 11 يوليو 2001 . وكانت نورة علي سباهيتش قد فقدت ابنا آخر يدعى أدمير سنة 1995 بعد  تعرضه لجراح بالغة اثناء قصف الصرب لسريبرينتسا التي أعلنتها الامم المتحدة آمنة وكان عمره 24 عاما .

الاخ مفقود : صافتا  موييتش كان عمرها 14 سنة عندما حصات كارثة سريبرينتسا المروعة وكانت ممن شاهد الشريط الذي عرض في محكمة لاهاي . قالت " للمسلم " والدموع تنحدر على وجنتيها " أخي صافت ( اسمها صافتا و شقيقها صافت ) كان عمره 17 سنة عندما حان الوقت لنفترق ، عندما سمع بأن الصرب يقتلون الاطفال سلك طريقا عبر الغابة بينما توجهت مع أمي إلى بلوتتشاري ،ومنها إلى توزلا ولا زلت أذكر ما حصل كأنه حدث اليوم " وتابعت " كان يلبس قميصا أزرق وأحمد الله أن أمي لم تشاهد الشريط الذي بثه التلفزيون فهي مريضة بالقلب ويمكن أن تموت لو شاهدت الشريط " وقالت " أخي كان الاول الذي تم انزاله من الشاحنة من بين الشهداء الستة ، كان شعره طويلا بعد أن قضى في المعتقل مدة اربعة اشهر وعندما أمر الاعداء الشهداء بالاستلقاء قبل اطلاق النار عليهم  كان في الصف الاخير " وأضافت " كان يريد أن يسجل في المعهد الثانوي بتوزلا ويواصل دراسته الجامعية ولكن الاعداء قتلوه " وقالت ( وهي تحاول مسح دموعها ) إنها لن ترضى بأي عقوبات تلحق بالمجرمين " فهم سيخرجون يوما من السجن بعد بضع سنوات ولكن أخي قتله المجرمون ولا يزالون أحياء " .

هذه الاعشاب من أديم أبي : فاطمة ميميتش إحدى العائدات إلى سريبرينتسا بعد المجزرة التي اقترفها الصرب الارثذوكس في المنطقة ، تشكو من قلة الاهتمام بالعائدين إلى سريبرينتسا ،حيث يعانون الجوع والخوف والافتقاد للبنية التحتية كالطرق الصالحة ومياه الشرب الصالحة والتدفئة والنور الكهربائي ، والمدارس لابنائهم . ولكنهم يتمتعون بعزة نفس ، وروح التفاؤل ، وهذا ما لاحظه " المسلم " ميدانيا في الذكرى 13 لمجزرة سريبرينتسا  " لدينا أجل سنعيشه تحت كل الظروف ، نتمنى أن نكرم في الآخرة بما حرمنا منه في الدنيا وعلى قدر ما عانينا في حياتنا ".أما عبدالله محمودوفيتش فقد قرر قبل 4 سنوات العودة لسريبرينتسا مفضلا حياة  البؤس والعوز على حياة الكفاف خارج سريبرينتسا "ولدنا هنا،هذه أرضنا،عليها سنحيا وعليها سنموت ونتركها لاحفادنا ،هنا ماضيناوحاضرنا ومستقبلنا ومستقبل أجيالنا ".وقال اسماعيل ريسيتش" للمسلم " " أرض سريبرينتسا مليئة بالمقابر الجماعية حتى إني أتخيل أن هذه الاعشاب سمدتها أجساد المسلمين الذين تعرضوا للغدر من قبل الامم المتحدة والدول الكبرى ، الذين سمحوا للصرب باجتياح سريبرينتسا بعد نزع أسلحتنا بحجة أن يتولوا هم حمايتنا " وتابع " أحيانا أتهيب المرور من بعض الاماكن لخشيتي من دوس عظام أفراد أسرتي ولا سيما أبي ،لاأدري لعل هذه الاعشاب التي أراها هنا وهناك نبتت من جسد أبي لعلها من أديم أبي ".وذكر رياض وهو كهل في الخمسين ، كيف كان يحفر أخدودا لتصريف مياه الامطار وصرفها عن ساحة المنزل ، لكنه عثر على أخدود لأهل الاخدود في سريبرينتسا " كانت مقبرة جماعية بها هياكل عظمية لشهداء سريبرنتسا " وتابع " لا أدري إن كنت سأعثر على مقابر جماعية أخرى في هذا المكان أو أماكن أخرى ، لا أحد يعلم ما تخفيه سطوح الارض وأعماقها من أسرار الابادة " . وفي نفس السياق قال صالح بشيروفيتش " للمسلم " " أكبر المشاكل هي المقابر الجماعية ، الموجودة في بالقرب من منازل الأهالي ، ولهذا السبب يعاني الناس من ألم الذكرى ، هنا قتل أبي ويقول الآخر هنا قتل ابني ، لن يكون من السهل العيش هنا " ويتابع " من يعيش هنا لا ينسى مثل من يعيش بعيدا عن سريبرينتسا ، صور أخوتك وأقربائك وجيرانك الذين قضوا في المجزرة لا يمكن أن تفارقك ، طيفهم يحيط بك من كل جانب في كل يوم وكل لحظة " ويشير محمد ( 43 سنة ) إلى إنه عاد إلى سريبرينتسا قبل 4 سنوات ، وكان يعمل قبل العدوان الصربي على البوسنة في مجال الزراعة التي تم تدميرها على يد الصرب همجيي العصر ،وقد تلقى بعض المزروعات من جهات دولية لكنها تبدو أنها غير صالحة لبيئة سريبرينتسا ،ويتمنى لو يتم تزويدهم بمشاتل ومزروعات ، فهم لا يريدون سوى من يساعدهم على استئناف دورات الانتاج والزراعة ليأكلوا مما يزرعوا و يلبسوا مما يصنعوا ، ويحصلون على رزقهم اليومي من عرق جبينهم وكد يمينهم .

أوضاع العائدين لسريبرينتسا : ومن الناحية الاجتماعية يشكو العائدون إلى سريبرينتسا من الظروف الصعبة التي يعانون منها ، سواء على الصعيد الامني حيث تم الاعتداء في أوقات سابقة على عدد من كبار السن الذين عادوا للمدينة والمناطق المجاورة لها ،أو التهديد بذالك ،إضافة لانعدام ظروف الحياة الكريمة حيث يعيش العائدون بلا كهرباء ، كما يعانون من نقص المواد الغذائية ،وغيرها من الحاجيات الأساسية . لكن السؤال الذي يطرح على العالم بما فيه المسلمون هو لماذا لم تأخذ مجزرة سريبرينتسا حظها في وسائل الاعلام وضحاياها ثلاثة أضعاف ضحايا 11/11 ويستكثر عليها بعض صفحات من كل سنة ؟ وأحيانا لا ينشر عنها خبر إلا بشق الأنفس ...