أمريكا كما يراها الدكتور عبد الوهاب المسيري
12 رجب 1429
د. محمد مورو
الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري مفكر عربي مصري مرموق ، وقد عاش لفترة في الولايات المتحدة الأمريكية ( [1] ) واستطاع أن يدرس حقيقتها من الداخل ، وكذا فإنه من أهم المفكرين العرب الذين درسوا الحضارة الغربية دراسة علمية نقدية ، وبالتالي فإن آراء الدكتور المسيري في أمريكا آراء لها وجاهتها وأهميتها ، وسواء اتفقت أو اختلفت معه في هذا الرأي أو ذاك إلا انه يعد مفتاحاً هاما ًلفهم أمريكا وبالتالي وضع التصور الصحيح لمواجهتها وللدكتور عبد الوهاب المسيري كتاب هام في هذا الصدد هو " الفردوس الأرضي – دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة " صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت
واستطاع الدكتور المسيري أن يحدد لنا رؤية الأمريكيين أنفسهم لأمريكا ، ومبرراتهم لوجودها ، وكذا فلسفتهم في إبادة شعبها الأصلي الهنود الحمر ، وتطابق الرؤية الأمريكية مع الرؤية الإسرائيلية في الكثير من القضايا التاريخية والفلسفية ، فالشاعر الأمريكي والت وايتمان وهو شاعر الديموقراطية الأمريكية في القرن التاسع عشر كان يرى أن كل تاريخ العالم لم يكن سوى هراء ووهم وانه كان مجرد تمهيد لظهور أمريكا .
والأمريكان مثل الإسرائيليين استخدموا العلامات الدينية لتبرير كل أعمالهم العدوانية من إبادة للهنود الحمر واحتلال لأراضي الغير ، والمفكر الأمريكي " أوسوليفان " كان يسمى إبادة الهنود الحمر والتوسع الأمريكي انه " رؤية عذبة " و" قدر جلي " ، وهو قدر لأنه مكتوب على الأمريكيين ذوي الرسالة الخالدة ، وهو جلي لأنه واضح للعيان ولا جدال فيه ، وحتى الآن لا نعدم أن تجد من يستخدم هذه النغمة الدينية التبريرية مثل الكاردينال سبيلمان الذي كان يسمى الجنود الأمريكان في فيتنام " جنود المسيح " ومثل الجنرال الأمريكي الذي دمر قرية فيتنامية " كي ينقذها " وهو هنا مثل الجنرال الإسرائيلي لديه إحساس بأنه صاحب رسالة خاصة وأنه قد اختير لتنفيذها ، ولذلك فهو يقوم بالتخريب والتدمير والفتح والغزو في منتهى البراءة ودون أن يهتز له جفن .
ويرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن كلاً من الأمريكي والإسرائيلي يعتقد أن قمة الفعل هو دائمـًا ذبح الخصم ، وان نقطة التشابه الأساسية بين الوجدانين الأمريكي والصهيوني هو العنف العنصري ، وأن العالم الجديد لا يمكن تشييده إلا عن طريق العنف والإبادة : " إبادة الهنود الحمر والفلسطينيين " – ويجب أن نضع في اعتبارنا انه من اليسير على الشعب الأمريكي فهم العقلية الإسرائيلي والتعاطف مع الشعب الإسرائيلي وقيمه اللاأخلاقية من عنصرية وعنف نظرًا لتشابه بين وجدان الشعبين .
والمجتمع الأمريكي كما يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري مجتمع ذرائعي – براجماتي ( عملي نفعي ) – لا يشغل نفسه إلا بما يزيد من راحته وهنائه الماديين ، فليس هناك أعلى ولا أسفل ولا يمين ولا يسار والروح تساوي الجسد والجميل لا يختلف عن القبيح ، والجاهل لا يختلف في عمله وحكمته عن العالم فالمعيار الوحيد هو النجاح ، ولا فرق بين الحياة والموت أو حتى بين الإنسان والحيوان .
والإنسان الأمريكي يسقط الخلفية التاريخية تمامًا وإذا أبقاها فهي تظل على مستوى الحد الأدنى أو القشرة أو من قبيل الديكور ( الزينة ) ليس إلا ، وفي داخل هذا الإطار الفلسفي لابد وان ينشأ نمط إنساني يجسد هذه الصفات التي هي من وجهة نظر هذا الإنسان لا هي بالرذائل ولا بالفضائل لأنها قانون طبيعي يعلو على الخير والشر إن أردنا استخدام المصطلح النيتشوي ، وهذه الشخصية هي الرائد الأمريكي أو " الكاوبوي " المؤمن بقدراته الخارقة للعادة على إخضاع أي شيء وعلى غزو البرية ، والرجل الأمريكي " الأبيض " هو (البراجماتي) بالدرجة الأولى (والسوبر مان) (الإنسان الخارق) الحق (والكاوبوي) الذي لا يهاب شيئـًا ، ويخاطر بكل شيء فيرنح كل شيء أو يفقد كل شيء ، ولكننا لو تعمقنا قليلاً في هذه البنية الداروينية النيتشوية لنصل إلى أساسها الاقتصادي لوصلنا إلى شخصية التاجر ، فالرائد هو التاجر الأعظم الذي يتاجر بكل شيء ويخاطر بكل شيء حتى حياته وجسده ، بل انه يكاد يقترب من العاهراة في هذا ، فالعاهراة هي الإنسان – السلعة – التي تصل إلى منتهى التموضع والانحراف الكامل عن الذات الإنسانية حيث يدخل الإنسان في علاقة موضوعية كاملة مع الآخرين ليس فيها خير ولا شر ويكون هو نفسه الذات الخلاقة ، الموضوع الذي يستهلك ، وتكون الذات الأخرى موضوعًا آخر باعتبار انه مصدر للمال وحسب الرائد يترك تاريخه وتراثه وقيمه وأسرته ويحمل مسدسه وجسده ليدخل في صراع مع الآخرين يكون هو الصائد أو الفريسة ، وفي هذا الإطار يمكننا أن نفهم الجوهر الرأسمالي الكامن وراء عبارات براجماتية نشطة مثل " المخاطرة " " الممارسة الحرة " و " الحرية الكاملة " وغيرها من المصطلحات ذات الطابع الأمريكي ، والسوق هو الذي يحدد كل القيم حسب دوراته اللامتناهية وحسبما تمليه قوانين العرض والطلب الذي لا يمكن لإنسان التحكم فيها ، والرأسمالية تظل منفصلة عن فكرة القيمة ومرتبطة بفكرة الثمن والعرض والطلب وهذا يفسر إيمان الأمريكي المجنون بفكرة الربح دائمـًا ، وبأي وسيلة ونحو أي اتجاه وبغض النظر عن مقدار البؤس الذي يحيق بالبشر ، وبهذا المنطق تعامل الأمريكي مع صاحب البلاد الأصلي " الهنود الحمر " ، فالهندي الأحمر من وجهة نظره كائن لا تحده حدود تاريخية أو إنسانيته يمكن اصطياده كالفريسة دون أي هلع أو وجل أخلاقيين .
والبراجماتية الأمريكية أكثر اتساعًا من حدود البراجماتية الصهيونية مثلاً فالأولى يحكمها قانون واقعي ، وهو قانون ضيق وغبي ، ولكنه في النهاية قانون . أما البراجماتية الصهيونية فهي مزيج فريد شاذ بين العقليتين العملية والغيبية التلمودية .
والأمريكي يستهلك دون تساؤل ، وهو لا يستفسر أبدًا عما إذا كان هذا الاستهلاك الغبي سيؤدي إلى سعادته الفردية أم لا فالسعادة الإنسانية ليست هي الهدف ، وهذا الإطار قد جعل من الأمريكي فريسة سهلة لسعار الحضارة الاستهلاكية ، وحتى تضمن الاحتكارات الأمريكية أن يظل المواطن الأمريكي غارقا في السلع والمادة وفي حالة غيبوبة إنسانية كاملة فإنها تطلق عليه سيلا من الإعلانات الرائعة !! ، وعالم السلع لا يغزو الإنسان الأمريكي من الخارج فحسب بل يغزوه ويقمع إنسانيته من الداخل ، وفي أمريكا فإن الدين الوحيد هو التحليل النفسي ، فمن وجهة نظر سيكولوجية ليبرالية نفسية متحررة غير تقليدية لا يمكنك أن تصدر أحكامًا أخلاقية أو فلسفية من أي نوع على أي فرد ، فغاية المجتمع هو إراحة أعضائه نفسيـًا عن طريق تدريبهم على فن التأقلم مع الواقع كما هو وتحقيق الثقة والطمأنينة الكاملتين في النفس " وهي نفس ليس لها وجود حقيقي لأنها متأقلمة مع الواقع مندمجة فيه منسجمة معه ومنه ، والدين يصبح اتجارًا والاتجار دينًا ، وهذا الضرب من التدين التجاري الذي يرى أن الإيمان تجارة مربحة يقبض ريعها ويحول التجربة الروحية إلى شيء كمي يمكن أن يقاس ويحسب بالمليم ، والمسيح بالنسبة للأمريكي هو الساحر الطبيب القادر على القيام بالحيل وعلى الإتيان بالشفاء العأجل ، أما المغزي الروحي الإنساني الهام لحياته وآلامه فهذا ما لا يمكنهم إدراكه ، والأمريكي يريد من المسيح الخلاص العذري المريح ، لأنه أي الأمريكي على عجلة من أمره ، والمسيح بالنسبة للأمريكي أيضـًا نجم أعظم وتكئة لتحقيق الأهداف العملية المباشرة ، وحتى الحواريين يرون المسيح على انه طريق إلى الشهرة والخلود .
وبما أن المجتمع الأمريكي براجماتي ولا أخلاقي وباحث عن الربح والمنفعة بأي ثمن فإن المرأة الأمريكية مثل المهاجرين الجدد والزنوج وغيرهم تدفع الثمن ، فالنظام الرأسمالي يحتاج إلى عمالة فائضة دائمـًا ( نوع من البروليتاريا ( الطبقة العمالية ) السائلة غير مرتبطة بوظيفة محددة وعلى استعداد للعمل في أي مكان وفي أي وقت دون أن تصبح جزءًا عضويًا من عملية الإنتاج نفسها ، أي أنها تظل دائمـًا خارج الإنتاج وداخله في نفس الوقت ) ، ووجود مثل هذه العمالة السائلة هام وضروري من وجهة نظر الرأسمالية لسببين :
أولاً للضغط على العمال ، وثانيًا لتمكين الرأسماليين من نقل رأسمالهم من استثمار ووجود فائض دائم من العمال يمكن الرأسمالي من استئجار أي عدد من العمال في أي وقت ، فلو تحققت العمالة الكاملة لأصبحت حركة النظام بطيئة للغاية ويقوم المهاجرون الجدد والزنوج بسد حاجة الرأسمالية الأمريكية في هذا المجال ولكنهم من وجهة نظر الرأسمالية يعدون متخلفين نوعًا ما لأن خلفيتهم الحضارية تعوقهم عن التأقلم السريع مع النظام وعن الإسهام الكفء في عملية الإنتاج ، كما أنهم لا يمكنهم القيام ببعض الأعمال الفنية .
ومن هنا تكون أكثر من فريق للعمالة الفائضة في الولايات وأحد لمختلف الأعمال اليدوية وقوامه المهاجرين والزنوج والآخر للأعمال المتقدمة نوعًا مثل السكرتارية والخدمات الاجتماعية وبعض الأعمال الإدارية وبعض الأعمال الصناعية الخفيفة وقوامه من السيدات ، وهذه العمالة الفائضة تكتسب أهمية خاصة أثناء الحروب المحدودة التي تخوضها أمريكا حيث تحل السيدات محل المحاربين .
وبهذا المعنى تكون سيدات أمريكا أقلية مستقلة مضطهدة اقتصاديـًا .
وإذا أخذنا سلم الاضطهاد كمعيار نجد أن المرأة الزنجية هي أكبر ضحية للاضطهاد الرأسمالي الأمريكي ، فالاضطهاد هنا ليس جنسيًا فقط ، ولكن جنسي عنصري طبقي ، فالأمريكان البيض الرجال هم الطبقة الأعلى طبعًا .
وهناك قصيدة كتبتها امرأة أمريكية تعبر عن هذه الحالة تقول القصيدة :
الفتاة الجميلة كالسلعة
تباع وتشترى مع أسهم الشركات
الفتاة الجميلة في هذا المجتمع
يحكم عليها حسب المظهر
وحسب ما ترى على وجهها
يكون في الغالب بقايا المواد الكيميائية
التي يستخدمونها في الحروب .
وهذا البيت الأخير يدل على أن ثمة تكامل في بنية المجتمع الأمريكي المسئول عن إنتاج النابالم ومساحيق التجميل ، ففي كلتا الحالتين نجد أن الهدف من عملية الإنتاج هو الإنتاج ذاته بحيث يدخل المجتمع دائرة الإنتاج الآخذة في الاتساع اللانهائي ولضمان هذا تدخل الرأسمالية في حروب تستهلك فيها آلاف الدبابات والطائرات والغازات السامة ، أو تغرى الآخرين بدخولها وبالتالي استيراد هذه السلع ، وتدخل الرأسمالية أيضـًا حروبًا داخلية مع الناس وبالذات المرأة لتستهلك فيها السيارات والمساحيق والثلاجات والاستقرار النفسي


( [1] ) عاش فيها من عام 1963 إلى عام – 1969 ثم من عام 1971 وهو يتردد عليها ويتابع أفكارها باستمرار .