براءة رسام الدنمرك!
12 رمضان 1429
د. محمد يحيى
عندما انتشر خبر تبرئة محكمة في الدنمرك لأحد رسامي الكاريكاتير صاحب ما اشتهر بقضية الرسوم المسيئة، لم تحدث ضجة في العالم الإسلامي كما كان متوقعًا بل سكون كان زائدًا أكثر من المعتاد.
وكان هذا هو الأمر المتوقع والطبيعي لأن أحد الأهداف الذي أدى إلى استثمار الضجة المثارة حول الرسوم المسيئة لتحقيقها كان إفراغ رد الفعل الإسلامي وشحنات الغيرة على رموز دينهم من الإساءات التي توجه إليها بحيث لا يعود لديهم أي رغبة بعد ذلك في الرد على الإساءات الموجهة لأي من رموز دينهم وعقيدتهم حتى ولو كانت في مستوى شخصية الرسول.
إنها نفس قصة الولد الذي كان يصبح كاذبًا بأن الذئب يتهدده إلى حد أن أحدًا لم يصدقه لكنه عندما صاح في المرة الأخيرة وكان صادقًا لم ينهض أحدًا لنجدته.
لكن القصة تتكرر الآن بشكل آخر، لقد أطلق طرفان من الإساءات البذيئة في منابر إعلامية أوروبية ضد الإسلام ورموزه وثارت ثائرة المسلمين في أقاصي العالم وأدناه بل إن بعض الحكومات والرعايات العلمانية ثارت هي الأخرى على غير المعهود والمتوقع (وهو ربما دل على حقيقة اللعبة) لكن هذه الثورة العارمة لم تنتهِ إلى شيء بل وصل الأمر إلى حكم البراءة كما تواصلت الحملة، وذهب بعض العلمانيين في أوروبا إلى الدعوة إلى نشر أمثال هذه الحملات وترويجها إمعانًا في النكاية في المسلمين.
وهذا هدف أمثال هذه الحملات فهي تطلق وتروج لكن تستدرج ردود أفعال المسلمين العنيفة وتترك المجال لتلك الردود لكي تثبت للمسلمين أنها في نهاية المطاف لن تكون ذات مردود إيجابي بل على العكس سوف تؤدي إلى ازدياد الحملات ونجاحها وتبرئة القائمين عليها، وبهذا يكتمل الدرس المطلوب تمريره للمسلمين، وهو أشبه بطريقة الارتباط الشرطي المعروفة في علم النفس.
فهم يخرجون بعد كل ضجيج وشراسة ردود الأفعال من جانبهم على كل حادثة استفزازية بحالة من الإحباط والتشاؤم والنفور والملل وعدم الرغبة في سماع المزيد من هذه المواضيع بسبب ما أحاط بها من توتر وتعب وعصبية انتهت علميًا إلى لا شيء سوى مضاعفة الحملات ونجاح أصحابها في بث دعاياتهم واستفزازاتهم.
إن المتابع لهذه الحوادث الاستفزازية المتكررة يلاحظ أن الهدف منها واحد فهي تبدأ بوضع استفزاز لا يطاق أمام المسلمين، وتجلس لتنتظر ردود أفعالهم الهائجة والمائجة دون أن يهتز لها جفن لأنها تعلم علم اليقين، وعلى ضوء توازن القوة السائدة في العالم ووفق أوضاع العالم الإسلامي نفسه وسيطرة العلمانيين على مقاليد الأمور أن هذه الردود الناتجة من الجانب الإسلامي على الحملات الاستفزازية التي تنجم عن شيء غير ضار بالنسبة للغرب، لكنها على الجانب الآخر سوف تؤدي إلى إصابة المسلمين بالإحباط الشديد لأنهم سيرون أن كل حملاتهم الإعلامية على ضراوتها، وكل بياناتهم لم تؤدِ إلى شيء.
والأخطر من ذلك أن هذا الإحباط سوف يترجم إلى عزوف وامتناع بعد ذلك عن القيام بأي عمل دفاعي عن الدين مهما انتهك من مقدساته، ليس فقط لظهور عدم جدوى أمثال هذه الحملات المضادة بل لأنه حدث بالفعل ربما قلت تفريغ لقوى رد الفعل والغيرة والغيظ الإسلامي على دفعات متتالية في الحملات بحيث لا يتبقى للمسلمين أية طاقة للحملات أو ردود أفعال مشابهة.
ومع الإحباط والتفريغ تأتي ظاهرة أخرى في الحالة الإسلامية، وهي ظاهرة عدم الإحساس وعدم المبالاة إزاء الحملات المستفزة وهذا هو بالضبط ما حدث في حالة رد الفعل البارد أو حتى غير الموجود على الحكم بتبرئة الرسام الدنمركي كما كان حدث في حالات مماثلة مشهورة.