16 صفر 1439

السؤال

وصفني بعض أصدقائي بالواهم والخيالي، عندما كلمتهم عن التفاؤل رغم ما يحصل للأمة الإسلامية الآن في أنحاء العالم، وقالوا إن المتفائل في هذه الظروف مغمض العينين، وإن الحزن هو الواجب لا التفاؤل.. فكيف ترون ذلك حفظكم الله.

أجاب عنها:
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

الجواب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد:

فالتفاؤل من كريم الصفات، توصف به النفوس الكريمة النبيلة الظانة بربها ظن الخير، وتعرض عنه اليائسة البائسة.
 

وهو سبب لحصول الخير، فالمتفائل عامل حارث همام بالخير، نشيط نحوه، مسارع بالعطاء والبذل، وهو معين على الصبر، ومثبت في الابتلاءات، ويساعد المرء على تجاوز الأزمات.
 

كما أنه يدعم القلب بالسكينة، ويذكر النفس بالثقة بالله والتوكل عليه، لذلك فأنا أقول للسائل هنيئاً لك بتفاؤلك.
 

والتفاؤل لا شك أنه جزء من الإيمان ولذلك ففي الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي» متفق عليه، ونحن لا نظن بالله إلا الظن الحسن.
 

ويقول الله سبحانه وتعالى عن الكفار الذين أساؤوا الظن {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، والتشاؤم والقنوط واليأس كله داخل في هذه الآية أنه سوء ظن بالله جل وعلا.
 

بل إن حسن الظن من حسن العبادة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن حسن الظن بالله تعالى من حسن العبادة» رواه أبو داود والترمذي.
 

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده».
 

أما كيف نتفاءل في مثل هذه الأوضاع، فنحن نقول:
إن التفاؤل لا يكون بمكانته وقيمته وأثره إلا في الوضع الحرج، أما في الأوضاع الطيبة، فقد لا يشعر المرء بالحاجة إليه..

 

وأمامنا مثالان في كتاب الله، الأول: مثل موسى عليه السلام؛ إذ كان في أعظم حالات التفاؤل بينما قومه في أشد لحظات التوتر والخوف والألم، إذ البحر أمامهم، وعدوهم خلفهم، فيقول قومه له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}.
 

إنها كلمة مقاربة في مرادها التطبيقي لما يقوله بعض الناس، لكن موسى كان يقول: كلا؛ فالعبد الصالح المتفائل الواثق بربه، يقول كما قال موسى عليه السلام: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
 

لو أن الأمر بمجرد المقاييس المادية لما كان حال موسى كذلك، ولما كانت النتيجة كذلك.
 

فتفاؤل السائل هو الصحيح، وتشاؤم أصحابه هو الخطأ؛ لأن قولهم هو المقياس المادي (إنا لمدركون)، لكن القرآن بيَّن لنا الاستجابة الفورية، (ولاحظ فاء الفورية): {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ}..
 

المثال الثاني، عن جد موسى عليه السلام وهو يعقوب عليه السلام، إذ يقول لبنيه في أحرج موقف مر به: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}.
الذين حوله قالوا له: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}.
لكنه مع ذلك يقول: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، ذلك لأنه قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
فعلمه من الله هو إيمان، سواء كان بالوحي أو كان بما جعله الله في قلبه من حسن ظنه بربه.

 

بل كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أشد ما كان يتفاءل في الأوقات الحرجة، ومن أقوى الأدلة على ذلك ما جاء من سورة الأحزاب، قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا...} إلى آخر الآيات.. {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} هنا الابتلاء العظيم جداً.
 

لكن انظر ماذا قال المنافقون.. قال سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}.
لقد تدبرت قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فقد وجدت الاقتداء به صلى الله ليه وسلم والتأسي به في مثل تلك الحالات، بأن يكون المرء متفائلا في الشدائد.

 

فبينما كان المؤمنون يزلزلون زلزالاً شديداً، كان صلى الله عليه وسلم يضرب الصخرة ثم يبشر بسقوط أكبر مملكتين في ذلك الوقت!
 

فالحقيقة إنه يجب التفاؤل في الشدة، بل إني أقول إن عدم التفاؤل هو من ضعف الإيمان.
 

أما الحزن فالحزن على نوعين، حزن طبيعي لا يسلم منه أحد {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}، كما حزن النبي صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم.
 

وحزن منهي عنه وهو الذي نهى عنه الله جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم في مواضع عدة {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ}.
 

وفرقٌ بين هذين، فالحزن الطبيعي مقبول لكنه غير مطلوب، إذ لا يكلف الله الإنسان ما لا يطيق فهذا لا يؤاخذ به الإنسان.
وأما المحرم وهو الذي يعرقل عن العمل ويسيء الظن بالله جل وعلا فأقول لهؤلاء أنْ يعيدوا النظر في فهمهم، وعلى الأخ السائل أن يثبت على ما هو عليه وسيرى بإذن الله الخير في العاقبة، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}.